فصل: تفسير الآية رقم (64)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس أنهم لما دخلوا عليه عليه السلام فعرفهم وهم له منكرون جاء بصواع الملك الذي كان يشرب فيه فوضعه على يده فجعل ينقره ويطن وينقره ويطن فقال‏:‏ إن هذه الجام ليخبرني خبراً هل كان لكم أخ من أبيكم يقال له يوسف وكان أبوه يحبه دونكم وإنكم انطلقتم به فالقيتموه في الجب وأخبرتم أباكم أن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب‏؟‏ قال‏:‏ فجعل بعضهم ينظر إلى بعض ويعجبون أن الجام يخبر بذلك، وفيه مخالفة للخبر السابق، وفي الباب أخبار أخرْ وكلها مضطربة فليقصر على ما حكاه الله تعالى مما قالوا ليوسف عليه السلام وقال‏:‏ ‏{‏أَلاَ تَرَوْنَ أَنّى أُوفِى الكيل‏}‏ أتمه لكم، وإيثار صيغة الاستقبال مع كون هذا الكلام بعد التجهيز للدلالة على أن ذلك عادة مستمرة ‏{‏وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين‏}‏ جملة حالية أي ألا ترون أني أوف الكيل لكم إيفاء مستمراً والحال أني في غاية الإحسان في إنزالكم وضيافتكم وكان الأمر كذلك، ويفهم من كلام بعضهم التعميم في الجملتين بحيث يندرج حينئذ في ذلك المخاطبون، وتخصيص الرؤية بالإيفاء لوقوع الخطاب في أثنائه، وأما الإحسان في الإنزال فقد كان مستمراً فبما سبق ولحق ولذلك أخبر عنه بالجملة الإسمية، ولم يقل ذلك عليه السلام بطريق الامتنان بل لحثهم على تحقيق ما أمرهم به، والاقتصار في الكيل على ذكر الإيفاء لأن معاملته عليه السلام معهم في ذلك كمعاملته مع غيرهم في مراعاة مواجب العدل، وأما الضيافة فليس للناس فيها حق فخصهم في ذلك بما يشاء قاله شيخ الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِى‏}‏ إيعاد لهم على عدم الإتيان به، والمراد لا كيل لكم في المرة الأخرى فضلاً عن إيفائه ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُونِ‏}‏ أي لا تقربوني بدخول بلادي فضلاً عن الإحسان في الإنزال والضيافة، وهو إما نهى أو نفي معطوف على التقديرين على الجزاء، وقيل‏:‏ هو على الأول استئناف لئلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر‏.‏ وأجيب بأن العطف مغتفر فيه لأن النهي يقع جزاء، وفيه دليل على أنهم كانوا على نية الامتياز مرة بعد أخرى وأن ذلك كان معلوماً له عليه السلام، والظاهر أن ما فعله معهم كان بوحي وإلا فالبر يقتضي أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله سبحانه أراد تكميل أجر يعقوب في محنته وهو الفعال لما يريد في خليقته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ سنراود عَنْهُ أَبَاهُ‏}‏ أي سنخادعه ونستميله برفق ونجتهد في ذلك، وفيه تنبيه على عزة المطلب وصعوبة مناله ‏{‏وَإِنَّا لفاعلون‏}‏ أي إنا لقادرون على ذلك لا نتعايا به أو إنا لفاعلون ذلك لا محالة ولا نفرط فيه ولا نتوانى، والجملة على الأول تذييل يؤكد مضمون الجملة الأولى ويحقق حصول الموعود من إطلاق المسبب أعني الفعل على السبب أعني القدرة، وعلى الثاني هي تحقيق للوفاء بالوعد وليس فيه ما يدل على أن الموعود يحصل أولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ يوسف عليه السلام ‏{‏لِفِتْيَانِهِ‏}‏ لغلمانه الكيالين كما قال قتادة‏.‏ وغيره أو لأعوانه الموظفين لخدمته كما قيل، وهو جمع فتى أو اسم جمع له على قول وليس بشيء، وقرأ أكثر السبعة ‏(‏لفتيته‏)‏‏}‏ وهو جمع قلة له، ورجحت القراءة الأولى بأنها أوفق بقوله‏:‏ ‏{‏اجعلوا بضاعتهم فِى رِحَالِهِمْ‏}‏ فإن الرحال فيه جمع كثرة ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد فينبغي أن يكون في مقابلة صيغة جمع الكثرة، وعلى القراءة الأخرى يستعار أحد الجمعين للآخر‏.‏ روى أنه عليه السلام وكل بكل رحل رجلاً يعبى فيه بضاعتهم التي اشتروا بها الطعام وكانت نعالاً وادماً؛ وأصل البضاعة قطعة وافرة من المال تقتني للتجارة والمراد بها هنا ثمن ما اشتروه‏.‏

والرحل ما على ظهر المركوب من متاع الراكب وغيره كما في البحر، وقال الراغب‏:‏ هو ما يوضع على البعير للركوب ثم يعبر به تارة عن البعير وأخرى عما يجلس عليه في المنزل ويجمع في القلة على أرحلة، والظاهر أن هذا الأمر كان بعد تجهيزهم، وقيل‏:‏ قبله ففيه تقديم وتأخير ولا حاجة إليه، وإنما فعل عليه السلام ذلك تفضلاً عليهم وخوفاً أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرة أخرى وكل ذلك لتحقيق ما يتوخاه من رجوعهم بأخيهم كما يؤذن به قوله‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا‏}‏ أي يعرفون حق ردها والتكرم بذلك فلعل على ظاهرها وفي الكلام مضاف مقدر، ويحتمل أن يكون المعنى لكي يعرفوها فلا يحتاج إلى تقدير وهو ظاهر التعلق بقوله‏:‏ ‏{‏إِذَا انقلبوا‏}‏ أي رجعوا ‏{‏إلى أَهْلِهِمْ‏}‏ فإن معرفتهم لها مقيدة بالرجوع وتفريغ الأوعية قطعاً، وأما معرفة حق التكرم في ردها وإن كانت في ذاتها غير مقيدة بذلك لكن لما كان ابتداؤها حينئذ قيدت به ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ حسبما طلبت منهم، فإن التفضل بإعطاء البدلين ولا سيما عند إعواز البضاعة من أقوى الدواعي إلى الرجوع، وقيل‏:‏ إنما فعله عليه السلام لما أنه لم ير من الكرم أن يأخذ من أبيه وإخوته ثمناً وهو الكريم ابن الكريم وهو كلام حق في نفسه ولكن يأباه التعليل المذكور، ومثل في هذا ما زعمه ابن عطية من وجوب صلتهم وجبرهم عليه عليه السلام في تلك الشدة إذ هو ملك عادل وهم أهل إيمان ونبوة، وأغرب منه ما قيل‏:‏ إنه عليه السلام فعل ذلك توطئة لجعل السقاية في رحل أخيه بعد ذلك ليتبين أنه لم يسرق لمن يتأمل القصة، ووجه بعضهم علية الجعل المذكور للرجوع بأن ديانتهم تحملهم على رد البضاعة لاحتمال أنه لم يقع ذلك قصداً أو قصداً للتجربة فيرجعون على هذا إما لازم وإما متعد، والمعنى يرجعونها أي يردونها، وفيه أن هيئة التعبية تنادي بأن ذلك بطريق التفضل فاحتمال غيره في غاية البعد، أنهم كيف جزموا بذلك حين رأوها وجعلوا ذلك دليلاً على التفضلات السابقة كما ستحيط به خبراً إن شاء الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ يأَبَانَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكيل‏}‏ أي حكم بمنعه بعد اليوم إن لم نذهب بأخينا بنيامين حيث قال لنا الملك ‏{‏فإِن لَّمْ تَأْتُونِى بِهِ فَلاَ كَيْفَ لَكُمْ عِندِى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 60‏]‏ والتعبير بذلك عما ذكر مجاز والداعي لارتكابه أنه لم يقع منع ماض، وفيه دليل على كون الامتيار مرة بعد أخرى كان معهوداً بينهم وبينه عليه السلام، وقيل‏:‏ إن الفعل على حقيقته والمراد منع أن يكال لأخيهم الغائب حملاً آخر ورد بغيره غير محمل بناء على رواية أنه عليه السلام لم يعط له وسقاً ‏{‏فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا‏}‏ بنيامين إلى مصر، وفيه إيذان بأن مدار المنع على عدم كونه معهم ‏{‏نَكْتَلْ‏}‏ أي من الطعام ما نحتاج إليه، وهو جواب الطلب، قيل‏:‏ والأصل يرفع المانع ونكتل فالجواب هو يرفع إلا أنه رفع ووضع موضع يكتل لأنه لما علق المنع من الكيل بعدم إتيان أخيهم كان أرساله رفعاً لذلك المانع، ووضع موضعه ذلك لأنه المقصود، وقيل‏:‏ إنه جيء بآخر الجزأين ترتباً دلالة على أولهما مبالغة، وأصل هذا الفعل نكتيل على وزن نفعيل قلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ثم حذفت لالتقاء الساكنين‏.‏ ومن الغريب أنه نقل السجاوندي أنه سأل المازني ابن السكيت عند الواثق عن وزن نكتل فقال‏:‏ نفعل فقال المازني‏:‏ فإذاً ماضيه كتل فخطأه على أبلغ وجه‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يكتل‏}‏ بياء الغيبة على إسناده للأخ مجازاً لأنه سبب للاكتيال أو يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا، وقوي أبو حيان بهذه القراءة القول ببقاء منع على حقيقته ومثله الإمام ‏{‏وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لحافظون‏}‏ من أن يصيبه مكروه، وهذا سد لباب الاعتذار وقد بالغوا في ذلك كما لا يخفى، وفي بعض الأخبار ولا يخفى حاله أنهم لما دخلوا على أبيهم عليه السلام سلموا عليه سلاماً ضعيفاً فقال لهم‏:‏ يا بني ما لكم تسلمون علي سلاماً ضعيفاً وما لي لا أسمع فيكم صوت شمعون فقالوا‏:‏ يا أبانا جئناك من عند أعظم الناس ملكاً ولم ير مثله علماً وحكماً وخشوعاً وسكينة ووقاراً ولئن كان لك شبه فإنه يشبهك ولكنا أهل بيت خلقنا للبلاء إنه اتهمنا وزعم أنه لا يصدقنا حتى ترسل معنا بنيامين برسالة منك تخبره عن حزنك وما الذي أحزنك وعن سرعة الشيب إليك وذهاب بصرك وقد منع منا الكيل فيما يستقبل إن لم نأته بأخينا فأرسله معنا نكتل وإنا له لحافظون حتى نأتيك به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ هَلْ وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ‏}‏ استفهام إنكاري و‏{‏امَنُكُمْ‏}‏ بالمد وفتح الميم ورفع النون مضارع من باب علم وأمنه وائتمنه بمعنى أي ما ائتمنكم عليه ‏{‏إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ‏}‏ أي إلا ائتماناً مثل ائتماني إياكم ‏{‏مِنْ أَخِيهِ‏}‏ يوسف ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ وقد قلتم أيضاً في حقه ما قلتم ثم فعلتم به ما فعلتم فلا أثق بكم ولا بحفظكم وإنما أفوض أمري إلى الله تعالى ‏{‏فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ أَرْحَمُ الرحمين‏}‏ فأرجو أن يرحمني بحفظه ولا يجمع على مصيبتين، وهذا كما ترى ميل منه عليه السلام إلى الإذن والإرسال لما رأى فيه من المصلحة، وفيه أيضاً من التوكل على الله تعالى ما لا يخفى، ولذا روى أن الله تعالى قال‏:‏ وعزتي وجلالي لأردهما عليك إذ توكلت علي، ونصب ‏{‏حافظا‏}‏ على التمييز نحو لله دره فارساً، وجوز غير واحد أن يكون على الحالية‏.‏ وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بجيد لما فيه من تقييد الخيرية بهذه الحالة‏.‏ ورد بأنها حال لازمة مؤكدة لا مبينة ومثلها كثير مع أنه قول بالمفهوم وهو غير معتبر ولو اعتبر ورد على التمييز وفيه نظر، وقرأ أكثر البسعة ‏{‏حافظا‏}‏ ونصبه على ما قال أبو البقاء على التمييز لا غير‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏خَيْرٌ حافظا‏}‏ على الإضافة وإفراد ‏{‏حَافِظٌ‏}‏ وقرأ أبو هريرة ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ على الإضافة والجمع، ونقل ابن عطية عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ‏{‏فالله خَيْرٌ حافظا وَهُوَ خَيْرٌ‏}‏ قال أبو حيان‏:‏ وينبغي أن تجعل جملة ‏{‏بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ‏}‏ الخ تفسيراً للجملة التي قبلها لا أنها قرآن وقد مر تعليل ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65 - 66‏]‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا فَتَحُواْ متاعهم‏}‏ قال الراغب‏:‏ المتاع كل ما ينتفع به على وجه، وهو في الآية الطعام، وقيل‏:‏ الوعاء وكلاهما متاع وهما متلازمان فإن الطعام كان في الوعاء، والمعنى على أنهم لما فتحوا أوعية طعامهم ‏{‏وَجَدُواْ بضاعتهم‏}‏ التي كانوا أعطوها ثمناً للطعام ‏{‏رُدَّتْ إِلَيْهِمْ‏}‏ أي تفضلاً وقد علموا ذلك بما مر من دلالة الحال، وقرأ علقمة‏.‏ ويحيى بن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏رُدَّتْ‏}‏ بكسر الراء، وذلك أنه نقلت حركة الدال المدغمة إلى الراء بعد توهم خلوها من الضمة وهي لغة لبني ضبة كما نقلت العرب في قيل وبيع، وحكى قطرب النقل في الحرف الصحيح غير المدغم نحو ضرب زيد‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ ماذا قالوا حينئذ‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا لأبيهم ولعله كان حاضراً عند الفتح ‏{‏قَالُواْ يأَبَانَا مَا نَبْغِى‏}‏ إذا فسر البغي بمعنى الطلب كما ذهب إليه جماعة فما يحتمل أن تكون استفهامية منصوبة المحل على أنها مفعول مقدم لنبغي فالمعنى ماذا نطلب وراء ما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الداعي إلى امتثال أمره والمراجعة إليه في الحوائج وقد كانوا أخبروه بذلك على ما روى أنهم قالوا له عليه السلام‏:‏ إنا قدمنا على خير رجل وأنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلاً من آل يعقوب ما أكرمنا كرامته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه بضاعتنا رُدَّتْ إِلَيْنَا‏}‏ جملة مستأنفة موضحة لما دل عليه الإنكار من بلوغ اللطف غايته كأنهم قالوا‏:‏ كيف لا وهذه بضاعتنا ردها إلينا تفضلاً من حيث لا ندري بعدما من علينا بما يثقل الكواهل من الممنن العظام وهل من مزيد على هذا فنطلبه، ومرادهم به أن ذلك كاف في استيجاب الامتثال لأمره والالتجاء إليه في استجلاب المزيد، ولم يريدوا أنه كاف مطلقاً فينبغي التقاعد عن طلب نظائره وهو ظاهر‏.‏

وجملة ‏{‏رُدَّتْ‏}‏ في موضع الحال من ‏{‏بضاعتنا‏}‏ بتقدير قد عند من يرى وجوبها في أمثال ذلك والعامل معنى الإشارة، وجعلها خبر ‏{‏هذه‏}‏ وبضاعتنا بياناً له ليس بشيء، وإيثار صيغة البناء للمفعول قيل‏:‏ للإيذان بكمال الإحسان الناشيء عن كمال الإخفاء المفهوم من كمال غفلتهم عنه بحيث لم يشعروا به ولا بفاعله، وقيل‏:‏ للإيذان بتعين الفاعل وفيه من مدحه أيضاً ما فيه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَمِيرُ أَهْلَنَا‏}‏ أي نجلب لهم الميرة، وهي بسكر الميم وسكون الياء طعام يمتاره الإنسان أي يجلبه من بلد إلى بلد، وحاصله نجلب لهم الطعام من عند الملك معطوف على مقدر ينسحب عليه رد البضاعة أي فنستظهر بها ونمير أهلنا ‏{‏وَنَحْفَظُ أَخَانَا‏}‏ من المكاره حسبما وعدنا، وتفرعه على ما تقدم باعتباره دلالته على إحسان الملك فإنه مما يعين على الحفظ ‏{‏وَنَزْدَادُ‏}‏ أي بواسطته ولذلك وسط الإخبار به بين الأصل والمزيد ‏{‏كَيْلَ بَعِيرٍ‏}‏ أي وسق بعير زائداً على أوساق أباعرنا على قضية التقسيط المعهود من الملك، والبعير في المشهور مقابل الناقة، وقد يطلق عليها وتكسر في لغة باؤه ويجمع على أبعرة وبعران وأباعر، وعن مجاهد تفسيره هنا بالحمار وذكر أن بعض العرب يقول للحمار بعير وهو شاذ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك كَيْلٌ‏}‏ أي مكيل ‏{‏يَسِيرٌ‏}‏ أي قليل لا يقوم بأودنا يحتمل أن يكون إشارة إلى ما كيل لهم أولاً، والجملة استئناف جيء بها للجواب عما عسى أن يقال لهم‏:‏ قد صدقتم فيما قلتم ولكن ما الحاجة إلى التزام ذلك وقد جئتم بالطعام‏؟‏ فكأنهم قالوا‏:‏ إن ما جئنا به غير كاف لنا فلا بد من الرجوع مرة أخرى وأخذ مثل ذلك مع زيادة ولا يكون ذلك بدون استصحاب أخينا، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما تحمله أباعرهم، والجملة استئناف وقع تعليلاً لما سبق من الازدياد كأنه قيل‏:‏ أي حاجة إلى الازدياد‏؟‏ فقيل‏:‏ إن ما تحمله أباعرنا قليل لا يكفينا، وقيل‏:‏ المعنى أن ذلك الكيل الزائد قليل لا يضايقنا فيه الملك أو سهل عليه لا يتعاظمه، وكأن الجملة على هذا استئناف جيء به لدفع ما يقال‏:‏ لعل الملك لا يعطيكم فوق العشرة شيئاً ويرى ذلك كثيراً أو صعباً عليه وهو كما ترى، وجوز أن يكون ذلك إشارة إلى الكيل الذي هم بصدده وتضمنه كلامهم وهو المنضم إليه كيل البعير الحاصل بسبب أخيهم المتعهد بحفظه كأنهم لما ذكروا ما ذكروا صرحوا بما يفهم منه مبالغة في استنزال أبيهم فقالوا‏:‏ ذلك الذي نحن بصدده كيل سهل لا مشقة فيه ولا محنة تتبعه، وقد يبقى الكيل على معناه المصدري والكلام على هذا الطرز إلا يسيراً‏.‏

وجوز بعضهم كون ذلك من كلام يعقوب عليه السلام والإشارة إلى كيل البعير أي كيل بعير واحد شيء قليل لا يخاطر لمثله بالولد، وكان الظاهر على هذا ذكره مع كلامه السابق أو اللاحق، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏مَا نَبْغِى‏}‏ أي مطلب نطلب من مهماتنا، والجمل الواقعة بعده توضيح وبيان لما يشعر به الإنكار من كونهم فائزين ببعض المطالب أو متمكنين من تحصيله فكأنهم قالوا‏:‏ هذه بضاعتنا حاضرة فنستظهر بها ونمير أهلنا ونحفظ أخانا من المكروه ونزداد بسببه غير ما نكتاله لأنفسنا كيل بعير فأي شيء نبغي وراء هذه المباغي، وما ذكرنا من العطف على المقدر هو المشهور‏.‏ وفي «الكشف» لك أن تقول‏:‏ إن ‏{‏نمير‏}‏ وما تلاه معطوف على مجموع ‏{‏يأَبَانَا مَا نَبْغِى‏}‏ والمعنى اجتماع هذين القولين منهم في الوجود ولا يحتاج إلى جامع وراء ذلك لكونهما محكيين قولاً لهم على أنه حاصل لاشتراك الكل في كونه لاستنزال يعقوب عليه السلام عن رأيه وأن الملك إذا كان محسناً كان الحفظ أهون شيء، والاستفهام لرجوعه إلى المنفي لا يمنع العطف ووافقه في ذلك بعضهم‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏مَا تَبْغِى‏}‏ بتاء الخطاب؛ وروت عائشة رضي الله تعالى عنها ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب ليعقوب عليه السلام، والمعنى أي شيء وراء هذه المباغي المشتملة على سلامة أخينا وسعة ذات أيدينا أو وراء ما فعل معنا الملك من الإحسان داعياً إلى التوجه إليه، والجملة المستأنفة موضحة أيضاً لذلك أو أي شيء تبغي شاهداً على صدقنا فيما وصفنا لك من إحسانه، والجملة المذكورة عبارة عن الشاهد المدلول عليه بفحوى الإنكار، ويحتمل أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ نافية ومفعول ‏{‏نَبْغِى‏}‏ محذوف أن ما نبغي شيئاً غير ما رأيناه من إحسان الملك في وجوب المراجعة إليه أو ما نبغي غير هذه المباغي، والقول بأن المعنى ما نبغي منك بضاعة أخرى نشتري بها ضعيف، والجملة المستأنفة على كل تقدير تعليل للنفي، وإما إذا فسر البغي بمجاوزة الحد فما نافية فقط، والمعنى ما نبغي في القول ولا نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك إلينا وكرمه الموجب لما ذكر، والجملة المستأنفة لبيان ما ادعوا من عدم البغي، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَمِيرُ‏}‏ الخ عطف على ‏{‏مَا نَبْغِى‏}‏ أي لا نبغي فيما نقول ونمير ونفعل كيف وكيت فاجتمع أسباب الإذن في الإرسال، والأول كالتمهيد والمقدمة للبواهي والتناسب من هذا الوجه لأن الكل متشاركة في أن المطلوب يتوقف عليها بوجه ما، على أنه لو لم يكن غير الاجتماع في المقولية لكفى على ما مر آنفاً عن الكشف‏.‏

وجوز كونه كلاماً مبتدأ أي جملة تذييلية اعتراضية كقولك‏:‏ فلان ينطق بالحق والحق أبلج كأنه قيل‏:‏ وينبغي أن نمير، ووجه التأكيد الذي يقتضيه التذييل أن المعنى أن الملك محسن ونحن محتاجون ففيم التوقف في الإرسال وقد تأكد موجباه‏؟‏، وقال العلامة الطيبي‏:‏ إنما صح التأكيد والتذييل لأن الكلام في الامتيار وكل من الجمل بمعناه أو المعنى ‏{‏مَا نَبْغِى‏}‏ في الرأي وما نعدل عن الصواب فيما نشير به عليه من إرسال أخينا معنا، والجمل كلها للبيان أيضاً إلا أن ثم محذوفاً ينساق إليه الكلام أي بضاعتنا حاضرة نستظهر بها ونمير أهلنا ونصنع كيت وذيت وهو على ما قيل‏:‏ وجه واضح حسن يلائم ما كانوا فيه مع أبيهم فتأمل هذا‏.‏ وقرأت عائشة‏.‏ وأبو عبد الرحمن ‏{‏وَنَمِيرُ‏}‏ بضم النون، وقد جاء مار عياله وأمارهم بمعنى كما في القاموس‏.‏

‏[‏66 ‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ الله لَتَأْتُنَّنِى بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّآ ءَاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ‏}‏ بعد أن عاينت منكم ما أجرى المدامع ‏{‏حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مّنَ الله‏}‏ أي حتى تعطوني ما أوتوثق به من جهته، فالموثق مصدر ميمي بمعنى المفعول، وأراد عليه السلام أن يحلفوا له بالله تعالى وإنما جعل الحلف به سبحانه موثقاً منه لأنه مما تؤكد العهود به وتشدد وقد أذن الله تعالى بذلك فهو إذن منه تعالى بذلك فهوإذن منه تعالى شأنه ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ‏}‏ جواب قسم مضمر إذ المعنى حتى تحلفوا بالله وتقولوا والله لنأتينك به‏.‏

وفي مجمع البيان نقلاً عن ابن عباس أنه عليه السلام طلب منهم أن يحلفوا بمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين وسيد المرسلين، والظاهر عدم صحة الخبر‏.‏ وذكر العمادي أنه عليه السلام قال لهم‏:‏ قولوا بالله رب محمد صلى الله عليه وسلم لنأتينك به ‏{‏إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ‏}‏ أي إلا أن تغلبوا فلا تطيقوا ذلك أو إلا أن تهلكوا جميعاً وكلاهما مروي عن مجاهد، وأصله من إحاطة العدو واستعماله في الهلاك لأن من أحاط به العدو فقد هلك غالباً، والاستثناء قيل مفرغ من أعم الأحوال والتقدير لتأتنني به على كل حال إلا حال الإحاطة بكم‏.‏ ورد بأن المصدر من ‏{‏ءانٍ‏}‏ والفعل لا يقع موقع الحال كالمصدر الصريح فيجوز جئتك ركضاً أي راضاً دون جئتك أن تركض وإن كان في تأويله لما أن الحال عندهم نكرة و‏{‏ءانٍ‏}‏ مع ما في حيزها معرفة في رتبة الضمير‏.‏ وأجيب بأنه ليس المراد بالحال الحال المصطلح عليها بل الحال اللغوية، ويؤل ذلك إلى نصب المصدر المؤول على الظرفية وفيه نظر‏.‏ وفي «البحر» أنه لو قدر كون ‏{‏ءانٍ‏}‏ والفعل في موقع المصدر الواقع ظرف زمان أي لتأتنني به في كل وقت إلا إحاطة بكم أي إلا وقت إحاطة بكم لم يجز عند ابن الأنباري لأنه يمنع وقوع المصدر المؤول ظرفاً ويشترط المصدر الصريح فيجوز خرجنا صياح الديك دون خرجنا أن يصيح الديك أو ما يصيح الديك، وجاز عند ابن جني المجوز لذاك كما في قول أبي ذؤيب الهذلي‏:‏

وتالله ما إن شهلة أم واحد *** بأوجد مني أن يهان صغيرها

وقيل‏:‏ من أعم العلل على تأويل الكلام بالنفي الذي ينساق إليه أي لتأتنني ولا تمتنعن من الإتيان به إلا للإحاطة بكم كقولهم‏:‏ أقسمت عليك إلا فعلت أي ما أطلب إلا فعلك، والظاهر اعتبار التأويل على الوجه الأول أيضاً فإن الاستثناء فيه مفرغ كما علمت، وهو لا يكون في الإثبات إلا إذا صح وظهر إرادة العموم فيه نحو قرأت إلا يوم الجمعة لإمكان القراءة في كل يوم غير الجمعة وهنا غير صحيح لأن لا يمكن لإخوة يوسف عليه السلام أن يأتوا بأخيهم في كل وقت وعلى كل حال سوى وقت الإحاطة بهم لظهور أنهم لا يأتون به له وهو في الطريق أو في مصر اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنه من ذلك القبيل وأن العموم والاستغراق فيه عرفي أي في كل حال يتصور الاتيان فيها، وتعقب المولى أبو السعود تجويز الأول بلا تأويل بقوله‏:‏ وأنت تدري أنه حيث لم يكن الاتيان من الأفعال الممتدة الشاملة للأحوال على سبيل المعية كما في قولك‏:‏ لألزمنك إلا أن تقضيني حقي ولم يكن مراده عليه السلام مقارنته على سبيل البدل لما عدا الحال المستثناة كما إذا قلت‏:‏ صل إلا أن تكون محدثاً بل مجرد تحققه ووقوعه من غير إخلال به كما في قولك‏:‏ لأحجن العام إلا أن أحصر فإن مرادك إنما هو الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عن الحج لا الإخبار بمقارنته لتلك الأحوال على سبيل البدل كما هو مرادك في مثال الصلاة كان اعتبار الأحوال معه من حيث عدم منعها منه، فآل المعنى إلى التويل المذكور اه‏.‏

وبحث فيه واحد من الفضلاء بثلاثة أوجه‏.‏ الأول‏:‏ أنه لو كان المراد من قوله‏:‏ ‏{‏لَتَأْتُنَّنِى بِهِ‏}‏ الإخبار بمجرد تحقق الإتيان ووقوعه من غير إخلال به لم يحتج إلى التأويل المذكور أعني التأويل بالنفي كما لا يخفى على المتأمل فكلامه يفيد خلاف مراده‏.‏ الثاني‏:‏ أنا سلمنا أن ليس مراد القائل من قوله‏:‏ لأحجن الخ الإخبار بمقارنة الحج لما عدا حال الإحصار على سبيل البدل لكن لا نسلم أن ليس مراده منه إلا الإخبار بعدم منع ما سوى حال الإحصار عنه غايته أن بينهما ملازمة وذاك لا يستلزم الاحتياج إلى التأويل بالنفي‏.‏ الثالث‏:‏ أنه إن أراد من قوله‏:‏ كان اعتبار الأحوال الخ أن الاتيان به لم يكن معه اعتبار الأحوال كما هو الظاهر فممنوع، وإن أراد أن اعتبار الأحوال معه يستلزم حيثية عدم منعها منه فمسلم لكن لا يلزم منه الاحتياج إلى التأويل المذكور أيضاً وليس المدعي إلا ذاك اه وهو كما ترى فتبصر، ثم إنهم أجابوه عليه السلام إلى ما أراد ‏{‏فَلَمَّا ءاتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ‏}‏ عهدهم من الله تعالى حسبما أراد عليه السلام ‏{‏قَالَ‏}‏ عرضاً لثقته بالله تعالى وحثاً لهم على مراعاة حلفهم به عز وجل ‏{‏الله على مَا نَقُولُ‏}‏ في أثناء طلب الموثق وإيتائه من الجانبين، وإيثار صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة المؤدى إلى تثبتهم ومحافظتهم على تذكره ومراقبته ‏{‏وَكِيلٌ‏}‏ أي مطلع رقيب، فإن الموكل بالأمر يراقبه ويحفظه، قيل‏:‏ والمراد أنه سبحانه مجاز على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ‏}‏ ناصحاً لهم لما عزم على إرسالهم جميعاً ‏{‏الذين ءامَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ‏}‏ مصر ‏{‏مِن بَابٍ وَاحِدٍ‏}‏ نهاهم عليه السلام عن ذلك حذراً من إصابة العين فإنهم كانوا ذوي جمال وشارة حسنة وقد اشتهروا بين أهل مصر بالزلفى والكرامة التي لم تكن لغيرهم عند الملك فكانوا مظنة لأن يعانوا إذا دخلوا كوكبة واحدة، وحيث كانوا مجهولين مغمورين بين الناس لم يوصهم بالتفرق في المرة الأولى، وجوز أن يكون خوفه عليه السلام عليهم من العين في هذه الكرة بسبب أن فيهم محبوبه وهو بنيامين الذي يتسلى به عن شقيقه يوسف عليه السلام ولم يكن فيهم في المرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف، والقول أنه عليه السلام نهاهم عن ذلك أن يستراب بهم لتقدم قول أنتم جواسيس ليس بشيء أصلاً، ومثله ما قيل‏:‏ إن ذلك كان طمعاً أن يتسمعوا خبر يوسف عليه السلام؛ والعين حق كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح أيضاً بزيادة ‏"‏ ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين ‏"‏ و‏"‏ إذا استغسلتم فاغتسلوا ‏"‏ وقد ورد أيضاً‏:‏ «إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر» وقد كان صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسنين رضي الله عنهما بقوله‏:‏ ‏"‏ أعوذ بكلمات الله تعالى التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة ‏"‏ وكان يقول‏:‏ ‏"‏ كان أبوكما يعوذ بهما إسماعيل وإسحق عليهم السلام ‏"‏

ولبعضهم في هذا المقام كلام مفصل مبسوط لا بأس بإطلاعك عليه، وهو أن تأثير شيء في آخر إما نفساني أو جسماني وكل منهما إما في نفساني أو جسماني، فالأنواع أربعة يندرج تحتها ضروب الوحي والمعجزات والكرامات والإلهامات والمنامات وأنواع السحر والأعين والنيرنجات ونحو ذلك‏.‏ أما النوع الأول‏:‏ أعني تأثير النفساني في مثله فكتأثير المبادى العالية في النفوس الإسلامية بإفاضة العلوم والمعارف، ويندرج في ذلك صنفان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما يتعلق بالعلم الحقيقي بأن يلقى إلى النفس المستعدة لذلك كمال العلم من غير واسطة تعليم وتعلم حتى تحيط بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بحسب الطاقة البشرية كما ألقى إلى نبينا صلى الله عليه وسلم علوم الأولين والآخرين مع أنه عليه الصلاة والسلام ما كان يتلوه من قبل كتاباً ولا يخطه بيمينه‏.‏

وثانيهما‏:‏ ما يتعلق بالتخيل القوي بأن يلقى إلى من يكون مستعداً له ما يقوى به على تخيلات الأمور الماضية والإطلاع على المغيبات المستقبلة، والمنامات الإلهامات داخلة أيضاً تحت هذا النوع، وقد يدخل تحته نوع من السحر وهو تأثير النفوس البشرية القوية فيها قوتا التخيل والوهم في نفوس بشرية أخرى ضعيفة فيها هاتان القوتان كنفوس البله والصبيان والعوام الذين لم تقوقوتهم العقلية فتتخيل ما ليس بموجود في الخارج موجوداً فيه وما هو موجود فيه على ضد الحال الذي هو عليها؛ وقد يستعان في هذا القسم من السحر بأفعال وحركات يعرض منها للحس حيرة وللخيال دهشة ومن ذلك الاستهتار في الكلام والتخليط فيه‏.‏

وأما النوع الثاني‏:‏ أعني تأثير النفساني في الجسماني فكتأثير النفوس الإنسانية في الأبدان من تغذيتها وإنمائها وقيامها وقعودها إلى غير ذلك ومن هذا القبيل صنف من المعجزات وهو ما يتعلق بالقوة المحركة للنفس بأن تبلغ قوتها إلى حيث تتمكن من التصرف في العالم تمكنها من التصرف في بدنها كتدمير قوم بريح عاصفة أو صاعقة أو زلزلة أو طوفان وربما يستعان فيه بالتضرع والابتهال إلى المبادي العالية كأن يستسقى للناس فيسقون ويدعو عليهم فيهلكون ولهم فينجون، ويندرج في هذا صنف من السحر أيضاً كما في بعض النفوس الخبيثة التي تقوى فيها القوة الوهمية بسبب من الأسباب كالرياضة والمجاهدة مثلاً فيسلطها صاحبها على التأثير فيمن أراده بتوجه تام وعزيمة صادقة إلى أن يحصل المطلوب الذي هو تأثره بنحو مرض وذبول جسم ويصل ذلك إلى الهلاك، وأما النوع الثالث‏:‏ وهو تأثير الجسماني في الجسماني فكتأثير الأدوية والسموم في الأبدان ويدخل فيه أنواع النيرنجات والطلسمات فإنهما بتأثير بعض المركبات الطبيعية في بعض بسبب خواص فيها كجذب المغناطيس للحديد واختطاف الكهرباء التبن، وقد يستعان في ذلك بتحصين المناسبات بالأجرام العلوية المؤثرة في عالم الكون والفساد كما يشاهد في أشكال موضوعة في أوقات مخصوصة على أوضاع معلومة في مقابلة بعض الجهات ومسامتة بعض الكواكب يستدفع بها كثير من أذية الحيوانات‏.‏ وأما النوع الرابع‏:‏ وهو تأثير الجسماني في النفساني فكتأثير الصور المستحسنة أو المستقبحة في النفوس الإنسانية من استمالتها إليها وتنفيرها عنها وعد من ذلك تأثير أصناف الأغاني والرقص والملاهي في بعض النفوس وتأثير البيان فيمن له ذوق كما يشير إليه قوله عليه الصلاة السلام‏:‏ «إن من البيان لسحراً» إذا تمهد هذا فاعلم أنهم اختلفوا في إصابة العين فأبو علي الجبائي أنكرها إنكاراً بليغاً ولم يذكر لذلك شبهة فضلاً عن حجة وأثبتها غيره من أهل السنة‏.‏ والمعتزلة‏.‏ وغيرهم إلا أنهم اختلفوا في كيفية ذلك فقال الجاحظ‏:‏ إنه يمتد من العين أجزاء فتصل بالشخص المستحسن فتؤثر فيه تأثير السم في الأبدان فالتأثير عنده من تأثير الجسماني في الجساني‏.‏

وضعف ذلك القاضي بأنه لو كان الأمر كما قال لوجب أن تؤثر العين في الشخص الذي لا يستحسن كتأثيرها فيما يستحسن‏.‏ وتعقبه الإمام بأنه تضعيف ضعيف، وذلك لأنه إذا استحسن العائن شيئا فأما أن يحب بقاءه كما استحسن ولده مثلاً وإما أن يكره ذلك كما إذا أحس بذلك المستحسن عند عدوه الحاسد هو له، فإن كان الأول فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله وهو يوجب انحصار الروح في داخل القلب، فحينئذ يسخن القلب والروح جداً ويحصل في الروح الباصر كيفية قوية مسخنة، وإن كان الثاني فإنه يحصل عند ذلك الاستحسان هم شديد وحزن عظيم بسبب حصول ذلك المستحسن لعدوه، وذلك أيضاً يوجب انحصار الروح وحصول الكيفية القوية المسخنة، وفي الصورتين يسخن شعاع العين فيؤثر ولا كذلك في عدم الاستحسان فبان الفرق، ولذلك السبب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصيب بالاغتسال اه‏.‏

وما أشار إليه من أن العائن قد يصيب ولده مثلاً مما شهدت له التجربة، لكن أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أبي هريرة، وقال الهيثمى‏:‏ رجاله رجال الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ العين حق يضرها الشيطان وحسد ابن آدم ‏"‏ وظاهره يقتضي خلاف ذلك، وأما ما ذكره من الأمر بالوضوء والاغتسال فقد جاء في بعض الروايات، وكيفية ذلك أن يغسل العائن وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخل إزاره أي ما يلي جسده من الإزار، وقيل وركيه‏:‏ وقيل‏:‏ مذاكيره ويصب الغسالة على رأس المعين وقد مر «إذا استغسلتم فاغسلوا» وهو خطاب للعائنين أي إذا طلب منكم ما اعتيد من الغسل فافعلوا والأمر للندب عند بعض، وقال الماوردي تبعاً لجماعة‏:‏ للوجوب فيجب على العائن أن يغسل ثم يعطي الغسالة للمعين لأنه الذي يقتضيه ظاهر الأمر ولأنه قد جرب ذلك وعلم البرء به ففيه تخليص من الهلاك كاطعام المضطر، وذكر أن ذلك أمر تعبدي وهو مخالف لما أشار إليه الإمام من كون الحكمة فيه تبريد تلك السخونة، وهو مأخوذ من كلام ابن القيم حيث قال في تعليل ذلك‏:‏ لأنه كما يؤخذ درياق لسم الحية من لحمها يؤخذ علاج هذا الأمر من أثر الشخص العائن، وأثر تلك العين كشعلة نار أصابت الجسد ففي الاغتسال إطفاء لتلك الشعلة، وهو على علاته أوفى من كلام الإمام‏.‏ ويرد على ما قرره في الانتصار للجاحظ أنه لا يسد عنه باب الاعتراض على ما ذكره في كيفية إصابة العين، إذ يرد عليه ما ثبت من أن بعض العائنين قد يصيب ما يوصف له ويمثل ولو كان بينه وبينه فراسخ، والتزام امتداد تلك الأجزاء إلى حيث المصاب مما لا يكاد يقبل كما لا يخفى على ذلك عين‏.‏ وقال الحكماء واختاره بعض المحققين من أهل السنة‏:‏ إن ذلك من تأثير النفساني بالجسماني وبنوه على أنه ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة بل قد يكون التأثير نفسياً محضاً كما يدل عليه أن اللوح الذي يكون قليل عرض إذا كان موضوعاً على الأرض يقدر كل إنسان على المشي عليه ولو كان موضوعاً بين جدارين مرتفعين لم يقدر كل أحد على المشي عليه وما ذاك إلا لأن الخوف من السقوط منه يوجب السقوط وأيضاً إن الإنسان إذا تصور أن فلاناً مؤذياً له حصل في قلبه غضب وتسخن مزاجه، فمبدأ ذلك ليس إلا التصور النفساني بل مبدأ الحركات البدنية مطلقاً ليس إلا التصورات النفسانية، ومتى ثبت أن تصور النفس يوجب تغير بدنه الخاص لم يبعد أيضاً أن يكون بعض النفوس بحيث تتعدى تأثيراتها إلى سائر الأبدان، وأيضاً جواهر النفوس مختلفة فلا يمتنع أن يكون بعض النفوس بحيث تؤثر في تغير بدن حيوان آخر بشرط أن تراه أو ترى مثاله على ما نقل وتتعجب منه، ومتى ثبت أن ذلك غير ممتنع وكانت التجارب شاهدة بوقوعه وجب القول به من غير تلعثم، ولأن وقوع ذلك أكثرى عند أعمال العين والنظر بها إلى الشيء نسب التأثير إلى العين وإلا فالمؤثر إنما هو النفس، ونسبة التأثير إليها كنسبة الإحراق إلى النار والري إلى الماء ونحو ذلك، والفاعل للآثار في الحقيقة هو الله عز سلطانه بالإجماع، لكن جرت عادته تعالى على خلقها بالأسباب من غير توقف عقلي عليها كما يظن جهلة الفلاسفة على ما نقل عن السلف أو عند الأسباب من غير مدخلية لها بوجه من الوجوه على ما شاع عن الأشعري‏.‏

فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «العين حق» أن اصابة النفس بواسطتها أمر كائن مقضى به في الوضع الالهي لا شبهة في تحققه وهو كسائر الآثار المشاهدة لنحو النار والماء والأدوية مثلاً‏.‏ وأنت تعلم أن مدار كل شيء المشيئة الإلهية فما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ يكن، وحكمة خلق الله تعالى التأثير في مسألة العين أمر مجهول لنا‏.‏ وزعم أبو هاشم‏.‏ وأبو القاسم البلخي أن ذلك مما يرجع إلى مصلحة التكليف قالا‏:‏ لا يمتنع أن تكون العين حقاً على معنى أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به استحساناً كان المصلحة له في تكليفه أن يغير الله تعالى ذلك الشيء حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف متعلقاً به، ثم لا يبعد أيضاً أنه لو ذكر ربه عند تلك الحالة وعدل عن الإعجاب وسأل ربه سبحانه بقاء ذلك مما تتغير المصلحة فيبقيه الله تعالى ولا يفنيه وهو كما ترى، ثم ان ما أشار إليه من نفع ذكر الله تعالى والالتجاء إليه سبحانه حق، فقد صرحوا بأن الأدعية والرقي من جملة الأسباب لدفع أذى العين بل إن من ذلك ما يكون سبباً لرد سهم العائن إليه‏.‏ فقد أخرج ابن عساكر أن سعيد الساحي قيل له‏:‏ احفظ ناقتك من فلان العائن فقال‏:‏ لا سبيل له إليها فعانها فسقطت تضطرب فأخبر الساحي فوقف عليها فقال‏:‏ حبس حابس وشهاب قابس رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه وعلى كبده وكليتيه رشيق وفي ماله يليق

‏{‏فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ الآية فخرجت حدقتا العائن وسلمت الناقة‏.‏

ويدل على نفع الرقية من العين مشروعيتها كما تدل عليه الآثار، وقد جاء في بعضها أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا رقية إلا من عين أو حمة ‏"‏ والمراد منه أنه لا رقية أولى وأنفع من رقية العين والحمة وإلا فقد رقى صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه من غيرهما‏.‏ وينبغي لمن علم من نفسه أنه ذو عين أن لا ينظر إلى شيء نظر إعجاب وأن يذكر الله تعالى عند رؤية ما يستحسن‏.‏ فقد ذكر غير واحد من المجربين أنه إذا فعل ذلك لا يؤثر، ونقل الأجهوري أنه يندب أنه يعوذ المعين فيقول اللهم بارك فيه ولا تضره ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وفي تحفة المحتاج أن من أدويتها أي العين المجربة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بها أن يتوضأ العائن إلى آخر ما ذكرناه آنفاً وأن يدعو للمعين وأن يقول المعين ما شاء الله لا قوة إلا بالله حصنت نفسي بالحي القيوم الذي لا يموت أبداً ودفعت عنها السوء بألف لا حول ولا قوة إلا بالله، ويسن عند القاضي لمن رأى نفسه سليمة وأحواله معتدلة أن يقول ذلك‏.‏ وفي شرح مسلم عن العلماء أنه على السلطان منع من عرف بذلك من مخالطة الناس ويرزقه من بيت المال إن كان فقيراً فإن ضرره أشد من ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله تعالى عنه من مخالطة الناس‏.‏ ورأيت لبعض أصحابنا أيضاً القول بندب ذلك، وأنه لا كفارة على عائن قيل‏:‏ لأن العين لا تعد مهلكاً عادة على أن التأثير يقع عندها لا بها حتى بالنظر للظاهر، وهذا بخلاف الساحر فإنهم صرحوا بأنه يقتل إذا أقرأن سحره يقتل غالباً‏.‏ ونقل عن المالكية أنه لا فرق بين الساحر والعائن فيقتلان إذا قتلا؛ ثم إن العين على ما نقل عن الرازي لا تؤثر ممن له نفس شريفة لما في ذلك من الاستعظام للشيء‏.‏ وفيما أخرجه الإمام أحمد في مسنده ما يؤيد المدعى، واعترض بما رواه القاضي أن نبياً استكثر قومه فمات منهم في ليلة مائة ألف فشكا ذلك إلى الله تعالى فقال له سبحانه وتعالى‏:‏ «إنك ستكثرتهم فعنتهم هلا حصنتهم إذا استكثرتهم فقال‏:‏ يا رب كيف أحصنهم‏؟‏ قال‏:‏ تقول حصنتكم بالحي القيوم إلى آخر ما تقدم» وقد يجاب بأن ما ذكر الرازي هو الأغلب بل يتعين تأويل هذا إن صح بأن ذلك النبي عليه السلام لما غفل عن الذكر عند الاستكثار عوتب فيهم ليسأل فيعلم فهو كالإصابة بالعين لا أنه عان حقيقة هذا والله تعالى أعلم، ثم إنه عليه السلام لم يكتف بالنهي عن الدخول من باب واحد بل ضم إليه قوله‏:‏ ‏{‏وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرّقَةٍ‏}‏ بيانا للمراد به وذلك لأن عدم الدخول من باب واحد غير مستلزم للدخول من أبواب متفرقة وفي دخولهم من بابين أو ثلاثة بعض ما في الدخول من باب واحد من نوع اجتماع مصحح لوقوع المحذور، وإنما لم يكتف بهذا الأمر مع كونه مستلزماً للنهي السابق إظهاراً لكمال العناية وبه وإيذاناً بأنه المراد بالأمر المذكور لا تحقيق شيء آخر ‏{‏وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ‏}‏ أي لا أنفعكم ولا أدفع عنكم بتدبيري ‏{‏مّنَ الله مِن شَىْء‏}‏ أي من قضائه تعالى عليكم شيئاً فإنه لا يغني حذر من قدر، ولم يرد بهذا عليه السلام كما قيل الغاء الحذر بالمرة كيف وقد قال سبحانه‏:‏

‏{‏خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏]‏ وقال عز قائلاً‏:‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 195‏]‏ بل أراد بيان أن ما وصاهم به ليس مما يستوجب المراد لا محالة بل هو تدبير وتشبث بالأسباب العادية التي لا تؤثر إلا بإذنه تعالى وإن ذلك ليس بمدافعة للمقدر بل هو استعانة بالله تعالى وهرب منه إليه ‏{‏إِنِ الحكم‏}‏ أي ما الحكم مطلقاً ‏{‏أَلاَ لِلَّهِ‏}‏ لا يشاركه أحد ولا يمانعه شيء ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ سبحانه دون غيره ‏{‏تَوَكَّلْتُ‏}‏ في كل ما آتى به وأذر، وفيه دلالة على أن ترتيب الأسباب غير مخل بالتوكل، وفي الخبر «اعقلها وتوكل»‏.‏

‏{‏وَعَلَيْهِ‏}‏ عز سلطانه دون غيره ‏{‏فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون‏}‏ أي المريدون للتوكل، قيل‏:‏ جمع بين الواو والفاء في عطف الجملة على الجملة مع تقديم الصلة للاختصاص ليفيد بالواو عطف فعل غيره من تخصيص التوكل بالله تعالى شأنه على فعل نفسه وبالفاء سببية فعله لكونه نبياً لفعل غيره من المقتدين به، وهي على ما صرح به بعضهم زائدة حيث قال‏:‏ ولا بد من القول بزيادة الفاء وإفادتها السببية، ويلتزم أن الزائد قد يدل على معنى غير التوكيد، وذكر أنه لو اكتفى بالفاء وحدها وقيل‏:‏ فعليه فليتوكل الخ أفاد تسبب الاختصاص لا أصل التوكل وهو المقصود، وكل ذلك لا يخلو عن بحث‏.‏ واختار بعضهم أنه جيىء بالفاء إفادة للتأكيد فقط كما هو الأمر الشائع في الحروف الزائدة فتدبر، وأياً ما كان فيدخل بنوه عليه السلام في عموم الأمر دخولاً أولياً، وفي هذا الأسلوب ما لا يخفى من حسن هدايتهم وإرشادهم إلى التوكل فيما هم بصدده على الله تعالى شأنه غير معتمدين على ما وصاهم به من التدبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم‏}‏ من الأبواب المتفرقة من البلد، قيل‏:‏ كانت له أربعة أبواب فدخلوا منها، وإنما اكتفى بذكره لاستلزامه الانتهاء عما نهوا عنه، وحاصله لما دخلوا متفرفين ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ ذلك الدخول ‏{‏يُغْنِى عَنْهُمْ مّنَ الله‏}‏ من جهته سبحانه ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ أي شيئاً مما قضاه عليهم جل شأنه، والجمل قيل‏:‏ جواب ‏{‏لَّمّاً‏}‏ والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل لتحقق المقارنة الواجبة بين جواب ‏{‏لَّمّاً‏}‏ ومدخولها، فإن عدم الاغناء بالفعل إنما يتحقق عند نزول المحذور لا وقت الدخول وإنما المتحقق حينئذ ما أفاده الجمع المذكورة من عدم كون الدخول مغنياً فيما سيأتي، وليس المراد بيان سببية الدخول المذكور لعدم الإغناء كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إلا نفوراً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 42‏]‏ فإن مجيىء النذير هناك سبب لزيادة نفورهم بل بيان عدم سببيته للاغناء مع كونها متوقعة في بادىء الرأي حيث أنه وقع حسبما وصاهم به عليه السلام، وهو نظير قولك‏:‏ حلف أن يعطيني حقي عند حلول الأجل فلما حل لم يعطيني شيئاً، فإن المراد بيان عدم سببية حلول الأجل للإعطاء مع كونها مرجوة بموجب الحلف لا بيان سببيته لعدم الإعطاء، فالمآل بيان عدم ترتب الغرض المقصود على التدبير المعهود مع كونه مرجو الوجود لا بيان ترتب عدمه عليه، ويجوز أن يراد ذلك أيضاً بناء على ما ذكره عليه السلام في تضاعيف وصيته من أنه لا يغنى عنهم تدبيره من الله تعالى شيئاً فكأنه قيل‏:‏ ولما فعلوا ما وصاهم به لم يفدهم ذلك شيئاً ووقع الأمر حسبما قال عليه السلام فلقوا ما لقوا فيكون من باب وقوع المتوقع اه، وإلى كون الجواب ما ذكر ذهب أبو حيان وقال‏:‏ إن فيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان كذلك ما جاز أن يكون معمولاً لما بعد ‏{‏فِى مَا‏}‏ النافية، ولعل من يذهب إلى ظرفيتها يجوز ذلك بناء على أن الظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، وقال أبو البقاء‏:‏ في جواب ‏(‏لما‏)‏ وجهان‏.‏ أحدهما أنه ‏{‏آوى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 69‏]‏ وهو جواب ‏(‏لما‏)‏‏}‏ الأولى والثانية كقولك‏:‏ لما جئتك وكلمتك أجبتني وحسن ذلك أن دخولهم على يوسف عليه السلام تعقب دخولهم من الأبواب‏.‏ والثاني أنه محذوف أي امتثلوا أو قضوا حاجة أبيهم وإلى الوجه الأخير ذهب ابن عطية أيضاً ولا يخفى أنه عليه وعلى ما قبله ترتفع غائلة توجيه أمر الترتب، وما أشار إليه صاحب القيل في ثاني وجهيه هو الذي يقتضيه ظاهر كلام كثير من المفسرين حيث ذكروا أن هذا منه تعالى تصديق لما أشار إليه يعقوب عليه السلام في قوله‏:‏

‏{‏وَمَا أُغْنِى عَنكُمْ مّنَ الله شَيْئاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 67‏]‏‏.‏

واعترض القول بعدم ترتب الغرض على التدبير بأن الغرض ليس إلا دفع إصابة العين لهم وقد تحقق بدخولهم متفرقين وهو وارد أيضاً على ما ذكر في الوجه الأخير كما لا يخفى‏.‏ وأجيب بأن المراد بدفع العين أن لا يمسهم سوء ما، وإنما خصت إصابة العين لظهورها، وقيل‏:‏ إن ما أصابهم من العين أيضاً فلم يترتب الغرض على التدبير بل تخلف ما أراده عليه السلام عن تدبيره، وتعقب بأنه تكتلف، واستظهر أن المراد أنه عليه السلام خشى عليهم شر العين فأصابهم شر أخر لم يخظر بباله فلم يفد دفع ما خافه شيئاً، وحينئذ يدعي أن دخولهم من حيث أمرهم أبوهم كان مفيداً لهم من حيث أنه دفع العين عنهم إلا أنه لما أصابهم ما أصابهم من إضافة السرقة إليهم وافتضاحهم بذلك مع أخيهم بوجدان الصواع في رحله وتضاعف المصيبة على أبيهم لم يعد ذلك فائدة فكأن دخولهم لم يفدهم شيئاً‏.‏ واعترض أيضاً ما ذكر في توجيه الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل بأن المشهور أن الغرض منه إفادة الاستمرار كما مرت الإشارة إليه غير مرة وظاهر ذلك لا يدل عليه، قيل‏:‏ وإذا كان الغرض هنا ذاك احتمل الكلام وجهين نفى استمرار الاغناء واستمرار نفيه وفيه تأمل متأمل جدا‏.‏ هذا وما أشرنا إليه من زيادة ‏{‏مِنْ‏}‏ في المنصوب هو أحد وجهين ذكرهما الرازي في الآية‏.‏ ثانيهما جواز كونها زائدة في المرفوع وحينئذ ليس في الكلام ضمير الدخول كما لا يخفى، قيل‏:‏ ولو اعتبر على هذا الوجه كون مرفوع ‏{‏كَانَ‏}‏ ضمير الشأن لم يبعد أي ما كان الشأن يغني عنهم من الله تعالى شيء ‏{‏إِلاَّ حَاجَةً‏}‏ استثناء منقطع أي ولكن حاجة ‏{‏فِى نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا‏}‏ أي أظهرها ووصاهم بها دفعا للخطرة غير معتقد أن للتدبير تأثيراً في تغيير التقدير، والمراد بالحاجة شفقته عليه السلام وحرازته من أن يعانوا‏.‏

وذكر الراغب أن الحاجة إلى الشيء الفقر إليه مع محبته وجمعه حاج وحاجات وحوائج، وحاج يحوج احتاج ثم ذكر الآية‏.‏ وأنكر بعضهم مجيء الحوائج جمعاً لها وهو محجوج بوروده في الفصيح، وفي التصريح باسمه عليه السلام إشعار بالتعطف والشفقة والترحم لأنه عليه السلام قد اشتهر بالحزن والرقة، وجوز أن يكون ضمير ‏{‏قَضَاهَا‏}‏ للدخول على معنى أن ذلك الدخول قضى حاجة في نفس يعقوب عليه السلام وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبواب متفرقة، فالمعنى ما كان ذلك الدخول يغني عنهم من جهة الله تعالى شيئاً لكن قضى حاجة حاصلة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته، والاستثناء منقطع أيضاً، وجملة ‏{‏قَضَاهَا‏}‏ صفة ‏{‏حَاجَةً‏}‏ وجوز أن يكون خبر ‏{‏إِلا‏}‏ لأنها بمعنى لكن وهي يكون لها اسم وخبر فإذا أولت بها فقد يقدر خبرها وقد يصرح به كما نقله القطب‏.‏

وغيره عن ابن الحاجب، وفيه أن عمل إلا بمعنى لكن عملها مما لم يقل به أحد من أهل العربية‏.‏

وجوز الطيبي كون الاستثناء متصلاً على أنه من باب‏.‏

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** فالمعنى ما أغنى عنهم ما وصاهم به أبوهم شيئاً إلا شفقته التي في نفسه، ومن الضرورة أن شفقة الأب مع قدر الله تعالى كالهباء فاذن ما أغنى عنهم شيئاً أصلاً ‏{‏وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ‏}‏ جليل ‏{‏لّمَا عَلَّمْنَاهُ‏}‏ أي لتعليمنا إياه بالوحي ونصب الأدلة حيث لم يعتقد أن الحذر يدفع القدر حتى يتبين الخلل في رأيه عند تخلف الأثر أو حيث بت القول بأنه لا يغنى عنهم من الله تعالى شيئاً فكانت الحال كما قال، فاللام للتعليل و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية والضمير المنصوب ليعقوب عليه السلام، وجوز كون ‏{‏مَا‏}‏ موصولاً اسمياً والضمير لها واللام صلة علم والمراد به الحفظ أي إنه لذو حفظ ومراقبة للذي علمناه إياه، وقيل‏:‏ المعنى إنه لذو علم لفوائد الذي علمناه وحسن إثارة، وهو إشارة إلى كونه عليه السلام عاملاً بما علمه وما أشير إليه أولا هو الأولى، ويؤيد التعليل قراءة الأعمش ‏{‏مّمَّا علمناه‏}‏ وفي تأكيد الجملة بان واللام وتنكير ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ وتعليله بالتعليم المسند إلى ضمير العظة من الدلالة على جلالة شأن يعقوب عليه السلام وعلو مرتبة علمه وفخامته ما لا يخفى‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ شر القدر ويزعمون أنه يغني عنه الحذر، وقيل‏:‏ المراد ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ إيجاب الحذر مع أنه لا يغني شيئاً من القدر‏.‏ وتعقب بأنه يأباه مقام بيان تخلف المطلوب عن المبادىء‏.‏

وقيل‏:‏ المراد ‏{‏لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن يعقوب عليه السلام بهذه المثابة من العلم، ويراد بأكثر الناس حينئذ المشركون فانهم لا يعلمون أن الله تعالى كيف ارشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة، وفيه أنه بمعزل عما نحن فيه‏.‏

وجعل المفعول سر القدر هو الذي ذهب إليه غير واحد من المحققين وقد سعى في بيان المراد منه وتحقيق إلغاء الحذر بعض أفاضل المتأخرين المتشبثين بأذيال الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فقال‏:‏ إن لنا قضاء وقدراً وسر قدر وصر سره، وبيانه أن الممكنات الموجودة، وإن كانت حادثة باعتبار وجودها العيني لكنها قديمة باعتبار وجودها العلمي وتسمى بهذا الاعتبار مهيئات الأشياء والحروف العالية والأعيان الثابتة، ثم أن تلك الأعيان الثابتة صور نسبية وظلال شؤنات ذاتية لحضرة الواجب تعالى، فكما أن الواجب تعالى والشؤون الذاتية له سبحانه مقدسة عن قبول التغير أزلا وأبداً كذلك الأعيان الثابتة التي هي طلالها وصورها يمتنع عليها أن تتغير عن الأحكام التي هي عليها في حدّ نفسها، فالقضاء هو الحكم الكلي على أعين الموجودات بأحوال جارية وأحكام طارئة عليها من الأزل إلى الأبد، والقدر تفصيل هذا الحكم الكلي بتخصيص إيجاد الأعيان وإظهارها بأوقات وأزامن يقتضي استعدادها الوقوع فيها وتعليق كل حال من أحوالها بزمان معين وسبب مخصوص، وسر القدر هو أن يمتنع أن يظهر عين من الأعيان إلا على حسب ما يقتضيه استعداده، وسر القدر هو أن تلك الاستعدادات أزلية غير مجعولة بجعل الجاعل لكون تلك الأعيان ظلال شؤنات ذاتية مقدسة عن الجعل والانفعال، ولا شك أن الحكم الكلي على الموجودات تابع لعلمه تعالى بأعيانها الثابتة، وعلمه سبحانه بتلك الأعيان تابع لنفس تلك الأعيان إذ لا أثر للعلم الأزلي في المعلوم بإثبات أمر له لا يكون ثابتاً أو بنفي أمر عنه يكون ثابتاً بل علمه تعالى بأمر ما إنما يكون على وجه يكون هو في حدّ ذاته على ذلك الوجه، وأما الأعيان فقد عرفت أنها ظلال لأمور أزلية مقدسة عن شوائب التغير فكانت أزلا، فالله تعالى علم بها كما كانت وقضى وحكم كما علم وقدّر وأوجد كما قضى وحكم، فالقدر تابع للقضاء التابع للمعلوم التابع لما هو ظل له فاليه سبحانه يرجع الأمر كله فيمتنع أن يظهر خلاف ما علم فلذا يلغو الحذر، لكن أمر به رعاية للأسباب فإن تعطيلها مما يفوت انتظام أمر هذه النشأة، ولذا ورد أن نبيا من الأنبياء عليهم السلام ترك تعاطي أسباب تحصيل الغذاء وقال‏:‏ لا أسعي في طلب شيء بعد أن كان الله تعالى هو المتكفل برزقي ولا آكل ولا أشرب ما لم يكن سبحانه وهو الذي يطعمني ويسقيني فبقي أياماً على ذلك حتى كادت تغيظ نفسه مما كابده فأوحى إليه سبحانه يا فلان لو بقيت كذلك إلى يوم القيامة ولم تتعاط سبباً ما رزقتك أتريد أن تعطل أسبابي‏؟‏

وقال بعض المحققين‏:‏ إن سبب إيجاب الحذر أن كثيراً من الأمور قضى معلقاً ونيط تحصيله بالأفعال الاختيارية للبشر بترتيب أسبابه ودفع موانعه فيمكن أن يكون الحفظ عن المكروه من جملة ما نيط بفعل اختياري وهو الحذر وهو لا يأتي ما قلناه كما لا يخفى ‏{‏هذا‏}‏

وذكر الشيخ الأكبر قدّس سره أن القدر مرتبة بين الذات والمظاهر ومن علم الله تعالى علمه ومن جهله سبحانه جهله والله تعالى شأنه لا يعلم فالقدر أيضاً لا يعلم، وإنما طوى علمه حتى لا يشارك الحق في علم حقائق الأشياء من طريق الإحاطة بها إذ لو علم أن معلوم كان بطريق الإحاطة من جميع وجوهه كما يعلمه الحق لما تميز علم الحق عن علم العبد بذلك الشيء ولا يلزمنا على هذا الاستواء فيما علم منه، فإن الكلام فيما علم كذلك، فإن العبد جاهل بكيفية تعلق العلم مطلقاً بمعلومه فلا يصح أن يقع الاشتراك مع الحق في العلم بمعلوم ما، ومن المعلومات العلم بالعلم، وما من وجه من المعلومات إلا وللقدر فيه حكم لا يعلمه إلا هو سبحانه فلو علم القدر علمت أحكامه ولو علمت أحكامه لاستقل العبد في العلم بكل شيء وما احتاج إليه سبحانه في شيء وكان له الغنى على الإطلاق، وسر القدر عين تحكمه في الخلائق، وأنه لا ينكشف لهم هذا السر حتى يكون الحق بصرهم‏.‏

وقد ورد النهي عن طلب علم القدر وفي بعض الآثار أن عزيراً عليه السلام كان كثير السؤال عنه إلى أن قال الحق سبحانه له‏:‏ يا عزير لئن سألت عنه لأمحون اسمك من ديوان النبوة، ويقرب من ذلك السؤال عن علل الأشياء في مكنوناتها، فإن أفعال الحق لا ينبغي أن تعلل؛ فإن ما ثم علة موجبة لتكوين شيء إلا عين وجود الذات وقبول عين الممكن لظهور الوجود، والأزل لا يقبل السؤال عن العلل، والسؤال عن ذلك لا يصدر إلا عن جاهل بالله تعالى فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ ءاوى‏}‏ أي ضم ‏{‏إِلَيْهِ أَخَاهُ‏}‏ بنيامين، قال المفسرون‏:‏ إنهم لما دخلوا عليه عليه السلام قالوا‏:‏ أيها الملك هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به فقال لهم‏:‏ أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي، وبلغوه رسالة أبيهم، فإنه عليه السلام لما ودعوه قال لهم‏:‏ بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له‏:‏ إن أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا، وقال أبو منصور المهراني‏:‏ إنه عليه السلام خاطبه بذلك في كتاب فلما قرأه يوسف عليه السلام بكى ثم أنه أكرمهم وأنزلهم وأحسن نزلهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحيداً فبكى وقال‏:‏ لو كان أخى يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام‏:‏ بقى أخوكم وحده فقالوا له‏:‏ كان له أخ فهلك قال‏:‏ فأنا أجلسه معي فأخذه وأجلسه معه على مائدة وجعل يؤاكله، فلما كان الليل أمرهم بمثل ذلك وقال‏:‏ ينام كل اثنين منكم على فراش فبقي بنيامين وحده فقال‏:‏ هذا ينام عندي على فراشي فنام مع يوسف عليه السلام على فراشه فجعل يوسف عليه السلام يضمه إليه ويشم ريحه حتى أصبح وسأله عن ولده فقال‏:‏ لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال له‏:‏ أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك‏؟‏ قال‏:‏ من يجد أخا مثلك أيها الملك‏؟‏ ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه وتعرف إليه عند ذلك ‏{‏قَالَ إِنّى أَنَاْ أَخُوكَ‏}‏ يوسف ‏{‏فَلاَ تَبْتَئِسْ‏}‏ أي فلا تحزن ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ بنا فيما مضى فإن الله تعالى قد أحسن إلينا وجمعنا على خير ولا تعلمهم بما أعلمتك، والقول بأنه عليه السلام تعرف إليه وأعلمه بأنه أخوه حقيقة هو الظاهر‏.‏ وروي عن ابن عباس‏.‏ وابن إسحاق‏.‏ وغيرهما إلا أن ابن اسحق قال‏:‏ إنه عليه السلام قال له بعد أن تعرف إليه‏:‏ لا تبال بكل ما تراه من المكروه في تحيلي في أخذك منهم، قال ابن عطية‏:‏ وعلى هذا التأويل يحتمل أن يشير ‏{‏بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ إلى ما يعمله فتيانه عليه السلام من أمر السقايه ونحو ذلك، وهو لعمري مما لا يكاد يقول به من له أدنى معرفة بأساليب الكلام، وقال وهب‏:‏ إنما أخبر عليه السلام أنه قائم مقام أخيه الذاهب في الود ولم يكشف إليه الأمر، ومعنى ‏{‏لا تَبْتَئِسْ‏}‏ الخ لا تحزن بما كنت تلقاه منهم من الحسد والأذى فقد أمنتهم، وروي أنه قال ليوسف عليه السلام‏:‏ أنا لا أفارقك قال‏:‏ قد علمت اغتمام والدي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا أن أنسبك إلى ما لا يجمل قال‏:‏ لا أبالي فافعل ما بدا لك قال‏:‏ فاني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك بأنك سرقته ليتهيأ لي ردك بعد تسريحك معهم قال‏:‏ افعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ‏}‏ ووفى لهم الكيل وزاد كلا منهم على ما روي حمل بعير ‏{‏جَعَلَ السقاية‏}‏ هي إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس، وقيل‏:‏ كانت تسقى بها الدواب ويكال بها الحبوب، وكانت من فضة مرصعة بالجواهر على ما روي عن عكرمة أو بدون ذلك كما روى عن ابن عباس‏.‏ والحسن وعن ابن زيد أنها من ذهب، وقيل‏:‏ من فضة مموهة بالذهب، وقيل‏:‏ كانت إناء مستطيلة تشبه المكوك الفارسي الذي يلتقي طرفاه يستعمله الأعاجم، يروى أنه كان للعباس مثله يشرب به في الجاهلية ولعزة الطعام في تلك الأعوام قصر كيله على ذلك، والظاهر أن الجاعل هو يوسف عليه السلام نفسه، ويظهر من حيث كونه ملكاً أنه عليه السلام لم يباشر الجعل بنفسه بل أمر أحداً فجعلها ‏{‏فِى رَحْلِ أَخِيهِ‏}‏ بنيامين من حيث يشعر أو لا يشعر‏.‏

وقرىء ‏{‏وَجَعَلَ‏}‏ بواو، وفي ذلك احتمالان‏.‏ الأول أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيين وما بعدها هو جواب ‏{‏لَّمّاً‏}‏ والثاني أن تكون عاطفة على محذوف وهو الجواب أي فلما جهزهم أمهلهم حتى انطلقوا وجعل ‏{‏ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذّنٌ‏}‏ نادى مسمع كما في مجمع البيان، وفي الكشاف وغيره نادى مناد‏.‏

وأورد عليه أن النحاة قالوا‏:‏ لا يقال قام قائم لأنه لا فائدة فيه‏.‏ وأجيب بأنهم أرادوا أن ذلك المنادي من شأنه الأعلام بما نادى به بمعنى أنه موصوف بصفة مقدرة تتم بها الفائدة أي أذن رجل معين للأذان ‏{‏أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ‏}‏ وقد يقال‏:‏ قياس ما في النظم الجليل على المثال المذكور ليس تتم في محله وكثيراً ما تتم الفائدة بما ليس من أجزاء الجملة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا يزن الزاني وهو مؤمن ولا يشرب الخمر وهو مؤمن» والعير الإبل التي عليها الأحمال سميت بذلك لأنها تعير أي تذهب وتجيء، وهو اسم جمع لذلك لا واحد له، والمراد هنا أصحاب العير كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا خيل الله اركبي» وذلك اما من باب المجاز أو الاضمار إلا أنه نظر إلى المعنى في الآية ولم ينظر إليه في الحدبث وقيل‏:‏ العير قافلة الحمير ثم توسع فيها حتى قيلت لكل قافلة كأنها جمع عير بفتح العين وسكون الياء وهو الحمار، وأصلها عير بضم العين والياء استثقلت الضمة على الياء فحذفت ثم كسرت العين لثقل الياء بعد الضمة كما فعل في بيض جمع أبيض وغيد جمع أغيد، وحمل العير هنا على قافلة الإبل هو المروى عن الأكثرين، وعن مجاهد أنها كانت قافلة حمير، والخطاب ‏{‏بِأَنَّكُمُ لَسَارِقُونَ‏}‏ ان كان بأمر يوسف عليه السلام فلعله أريد بالسرقة أخذهم له من أبيه على وجه الخيانة كالسراق؛ ودخول بنيامين فيه بطريق التغليب أو أريد سرقة السقاية، ولا يضر لزوم الكذب لأنه إذا اتضمن مصلحة رخص فيه‏.‏

وإما كونه برضا أخيه فلا يدفع ارتكاب الكذب وإنما يدفع تأذى الأخ منه، أو يكون المعنى على الاستفهام أي أئنكم لسارقون ولا يخفى ما فيه من البعد وإلا فهو من قبل المؤذن بناء على زعمه قيل والأول هو الأظهر الأوفق للسياق‏.‏ وفي البحر الذي يظهر أن هذا التحيل ورمي البرآء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام بوحي من الله تعالى لما علم سبحانه في ذلك من الصلاح ولما أراد من محنتهم بذلك، ويؤيده قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 76‏]‏ وقرأ اليماني ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ بلا لام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏شُرَكَائِى قَالُواْ‏}‏ أي الإخوة ‏{‏وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي على طالبي السقاية المفهوم من الكلام أو على المؤذن إن كان أريد منه جمع كأنه عليه السلام جعل مؤذنين ينادون بذلك على ما في «البحر»، والجملة في موضع الحال من ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ جىء بها للدلالة على انزعاجهم مما سمعوه لمباينته لحالهم أي قالوا مقبلين عليهم ‏{‏مَّاذَا تَفْقِدُونَ‏}‏ أي أي شيء تفقدون أو ما الذي تفقدونه‏؟‏ والققد كما قال الراغب‏:‏ عدم الشيء بعد وجوده فهو أخص من العدم فإنه يقال له ولما لم يوجد أصلاً، وقيل‏:‏ هو عدم الشيء بأن يضل عنك لا بفعلك، وحاصل المعنى ما ضاع منكم‏؟‏ وصيغة المستقبل لاستحضار الصورة‏.‏

وقرأ السلمي ‏{‏تَفْقِدُونَ‏}‏ بضم التاء من أفقدته إذا وجدته فقيداً نحو أحمدته إذا وجدته محمودا‏.‏ وضعف أبو حاتم هذه القراءة ووجهها ما ذكر، وعلى القراءتين فالعدول عما يقتضيه الظاهر من قولهم‏:‏ ماذا سرق منكم على ما قيل لبيان كمال نزاهتهم بإظهار أنه لم يسرق منهم شيء فضلاً عن أن يكونوا هم السارقين له، وإنما الممكن أن يضيع منهم شيء فيسألونهم ماذا‏؟‏، وفيه إرشاد لهم إلى مراعاة حسن الأدب والاحتراز عن المجازفة ونسبة البراء إلى ما لا خير فيه لا سيما بطريق التأكيد فلذلك غيروا كلامهم حيث قالوا في جوابهم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك‏}‏ ولم يقولوا سرقتموه أو سرق، وقيل‏:‏ كان الظاهر أن يبادروا بالإنكار ونفى أن يكونوا سارقين ولكنهم قالوا ذلك طلباً لإكمال الدعوى إذ يجوز أن يكون فيها ما تبطل به فلا تحتاج إلى خصام، وعدلوا عن ماذا سرق منكم‏؟‏ إلى ما في «النظم الجليل» لما ذكر آنفاً، والصواع بوزن غراب المكيال وهو السقاية ولم يعبر بها مبالغة في الإفهام والإفصاح؛ ولذا أعاد الفعل، وصيغة المستقبل لما تقدم أو للمشاكلة‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن جبير فيما نقل ابن عطية كما قرأ الجمهور إلا أنهم كسروا الصاد، وقرأ أبو هريرة‏.‏ ومجاهد ‏{‏صاع‏}‏ بغير واو على وزن فعل فالألف فيه بدل من الواو المفتوحة‏.‏ وقرأ أبو رجاء ‏{‏صوع‏}‏ بوزن قوس‏.‏

وقرأ عبد الله بن عون بن أبي أرطبان ‏{‏صوع‏}‏ بضم الصاد وكلها لغات في الصاع، وهو مما يذكر ويؤنث وأبو عبيدة لم يحفظ التأنيث، وقرأ الحسن‏.‏ وابن جبير فيما نقل عنهما صاحب اللوامح، ‏{‏صواغ‏}‏ بالغين المعجمة على وزن غراب أيضاً، وقرأ يحيى بن يعمر كذلك إلا أنه حذف الألف وسكن الواو، وقرأ زيد بن علي ‏{‏صوغ‏}‏ على أنه مصدر من صاغ يصوغ أريد به المفعول، وكذا يراد من صواغ وصوغ في القراءتين أي نفقد مصوغ الملك ‏{‏الملك وَلِمَن جَاء بِهِ‏}‏ أي أتى به مطلقاً ولو من عند نفسه، وقيل‏:‏ من دل على سارقه وفضحه ‏{‏حِمْلُ بَعِيرٍ‏}‏ أي من الطعام جعلا له، والحمل على ما في «مجمع البيان» بالكسر لما انفصل وبالفتح لما اتصل، وكأنه أشار إلى ما ذكره الراغب من أن الحمل بالفتح يقال في الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن والماء في السحاب والثمرة في الشجرة ‏{‏وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ أي كفيل أؤديه إليه وهو قول المؤذن‏.‏

واستدل بذلك كما في الهداية وشروحها على جواز تعليق الكفالة بالشروط لأنه مناديه علق الالتزام بالكفالة بسبب وجوب المال وهو المجىء بصواع الملك وندائه بأمر يوسف عليه السلام، وشرع من قبلنا شرع لنا إذا مضى من غير إنكار، وأورد عليه أمران‏.‏ الأول‏:‏ ما قاله بعض الشافعية من أن هذه الآية محمولة على الجعالة لما يأتي به لا لبيان الكفالة فهي كقول من أبق عبده من جاء به فله عشرة دراهم وهو ليس بكفالة لأنها إنما تكون إذا التزم عن غيره وهنا قد التزم عن نفسه‏.‏ الثاني‏:‏ أن الآية متروكة الظاهر لأن فيها جهالة المكفول له وهي تبطل الكفالة‏.‏ وأجيب عن الأول بأن الزعم حقيقة في الكفالة والعمل بها مهما أمكن واجب فكأن معناه قول المنادي للغير‏:‏ إن الملك قال‏:‏ لمن جاء به حمل بعير وأنابه زعيم فيكون ضامناً عن الملك لا عن نفسه فتتحقق حقيقة الكفالة‏.‏

وعن الثاني بأن في الآية ذكر أمرين الكفالة مع الحمالة للمكفول له، وإضافتها إلى سبب الوجوب، وعدم جواز أحدهما بدليل لا يستلزم عدم جواز الآخر‏.‏

وفي كتاب الأحكام أنه روي عن عطاء الخراساني ‏{‏زَعِيمٌ‏}‏ بمعنى كفيل فظن بعض الناس أن ذلك كفالة إنسان وليس كذلك لأن قائله جعل حمل بعير أجرة لمن جاء بالصاع وأكده بقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ‏}‏ أي ضامن فألزم نفسه ضمان الأجرة لرد الصاع، وهذا أصل في جواز قول القائل‏:‏ من حمل هذا المتاع لموضع كذا فله درهم وأنه إجارة جائزة وإن لم يشارط رجلاً بعينه وكذا قال محمد بن الحسن في السير الكبير‏:‏ ولعل حمل البعير كان قدراً معلوماً، فلا يقال‏:‏ إن الإجارة لا تصح إلا بأجر معلوم كذا ذكره بعض المحققين‏.‏

وقال الإمام‏:‏ إن الآية تدل على أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ «الزعيم غارم» وليست كفالة بشيء مجهول لأن حمل بعير من الطعام كان معلوماً عندهم فصحت الكفالة به إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهي كفالة لما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئاً على رد السرقة‏.‏

ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم، وتعقب بأنه لا دليل على أن الراد هو من علم أنه الذي سرق ليحتاج إلى التزام القول بصحة ذلك في دينهم وتمام البحث في محله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ تالله‏}‏ أكثر النحويين على أن التاء بدل من الواو كما أبدلت في تراث وتوراة عند البصريين، وقيل هي بدل من الباء، وقال السهيلي‏:‏ إنها أصل برأسها، وقال الزجاج‏:‏ إنها لا يقسم بها إلا في الله خاصة‏.‏ وتعقب بالمنع لدخولها على الرب مطلقاً أو مضافاً للكعبة وعلى الرحمن وقالوا تحياتك أيضاً‏.‏ وأياً ما كان ففي القسم بها معنى التعجب كأنهم تعجبوا من رميهم بما ذكر مع ما شاهدوه من حالهم، فقد روى أنهم كانوا يعكمون أفواه إبلهم لئلا تنال من زروع الناس وطعامهم شيئاً واشتهر أمرهم في مصر بالعفة والصلاح والمثابرة على فنون الطاعات، ولذا قالوا‏:‏ ‏{‏لَقَدْ عَلِمْتُمْ‏}‏ علماً جازماً مطلقاً للواقع ‏{‏مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الارض‏}‏ أي لنسرق فإن السرقة من أعظم أنواع الإفساد أو لنفسد فيها أي إفساد كان فضلاً عما نسبتمونا إليه من السرقة، ونفى المجىء للإفساد وإن لم يكن مستلزماً لما هو مقتضى المقام من نفي الإفساد مطلقاً لكنهم جعلوا المجىء الذي يترتب عليه ذلك ولو بطريق الاتفاق مجيئاً لغرض الإفساد مفعولاً لأجله ادعاء إظهاراً لكمال قبحه عندهم وتربية لاستحالة صدوره عنهم فكأنهم قالوا‏:‏ إن صدر عنا إفساد كان مجيئنا لذلك مريدين به تقبيح حاله وإظهار كمال نزاهتهم عنه كذا قيل‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم أرادوا نفي لازم المجىء للإفساد في الجملة وهو تصور الإفساد مبالغة في نزاهتهم عن ذلك فكأنهم قالوا‏:‏ ما مر لنا الإفساد ببال ولا تعلق بخيال فضلاً عن وقوعه منا ولا يخفى بعده ‏{‏وَمَا كُنَّا سارقين‏}‏ أي ما كنا نوصف بالسرقة قط، والظاهر دخول هذا في حيز العلم كالأول، ووجهه أن العلم بأحوالهم المشاهدة يستلزم العلم بأحوالهم الفائتة، والحلف في الحقيقة على الأمرين اللذين في حيز العلم لا على علم المخاطبين بذلك إلا أنهم ذكروه للاستشهاد وتأكيد الكلام، ولذا أجرت العرب العلم مجرى القسم كما في قوله‏:‏

ولقد علمت لتأتين منيتي *** إن المنايا لا تطيش سهامها

وفي ذلك من إلزام الحجة عليهم وتحقيق أمر التعجب المفهوم من تاء القسم من كلامهم كما فيه، وذكر بعضهم أنه يجوز أن يكون كما جئنا الخ متعلق العلم وأن يكون جواب القسم أو جواب العلم لتضمنه معناه وهو لا يأبى ما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي أصحاب يوسف عليه السلام ‏{‏فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ أي الصواع، والكلام على حذف مضاف أي ما جزاء سرقته، وقيل‏:‏ الضمير لسرق أو للسارق والجزاء يضاف إلى الجناية حقيقة وإلى صاحبها مجازاً، وقد يقال‏:‏ يحذف المضاف فافهم والمراد فما جزاء ذلك عندكم وفي شريعتكم ‏{‏إِن كُنتُمْ كاذبين‏}‏ أي في ادعاء البراءة كما هو الظاهر، وفي التعبير بإن مراعاة لجانبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الإخوة ‏{‏جَزؤُهُ مَن وُجِدَ‏}‏ أي أخذ من وجد الصواع ‏{‏فِى رَحْلِهِ‏}‏ واسترقاقه، وقدر المضاف لأن المصدر لا يكون خبراً عن الذات ولأن نفس ذات من وجد في رحله ليست جزاء في الحقيقة، واختاروا عنوان الوجدان في الرحل دون السرقة مع أنه المراد لأن كون الأخذ والاسترقاق سنة عندهم ومن شريعة أبيهم عليه السلام إنما هو بالنسبة إلى السارق دون من وجد عنده مال غيره كيفما كان إشارة إلى كمال نزاهتهم حتى كأن أنفسهم لا تطاوعهم وألسنتهم لا تساعدهم على التلفظ به مثبتاً لأحدهم بأي وجه كان وكأنهم تأكيداً لتلك الإشارة عدلوا عمن وجد عنده إلى من وجد في رحله ‏{‏فَهُوَ جَزَاؤُهُ‏}‏ أي فأخذه جزاؤه وهو تقدير للحكم السابق بإعادته كما في قولك‏:‏ حق الضيف أن يكرم فهو حقه وليس مجرد تأكيد، فالغرض من الأول إفادة الحكم ومن الثاني إفادة حقيته والاحتفاظ بشأنه كأنه قيل‏:‏ فهذا ما تلخص وتحقق للناظر في المسألة لا مرية فيه، قيل‏:‏ وذكر الفاء في ذلك لتفرغه على ما قبله ادعاء وإلا فكان الظاهر تركها لمكان التأكيد، ومنه يعلم أن الجملة المؤكدة قد تعطف لنكتة وإن لم يذكره أهل المعاني، وجوز كون ‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة مبتدأة وهذه الجملة خبره والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط وجملة المبتدأ وخبره خبر ‏{‏جَزَاؤُهُ‏}‏‏.‏ وأن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية مبتدأ ‏{‏وَوَجَدَ فِى رَحْلِهِ‏}‏ فعل الشرط وجزاؤه فهو جزاؤه والفاء رابطة والشرط وجزاؤه خبر أيضاً كما في احتمال الموصولة‏.‏ واعترض على ذلك بأنه يلزم خلو الجملة الواقعة خبراً للمبتدأ عن عائد إليه لأن الضمير المذكور لمن لا له‏.‏ وأجيب بأنه جعل الاسم الظاهر وهو الجزاء الثاني قائماً مقام الضمير والربط كما يكون بالضمير يكون بالظاهر والأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو أي فهو الجزاء، وفي العدول ما علم من التقرير السابق وإزالة اللبس والتفخيم لا سيما في مثل هذا الموضع فهو كاللازم، وقد صرح الزجاج بأن الإظهار هنا أحسن من الإضمار وعلله ببعض ما ذكر وأنشد‏:‏

لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغص الموت ذا الغنى والفقيرا

وبذلك يندفع ما في «البحر» اعتراضاً على هذا الجعل من أن وضع الظاهر موضع الضمير للربط إنما يفصح إذا كان المقام مقام تعظيم كما قال سيبويه فلا ينبغي حمل النظم الجليل على ذلك، وأن يكون جزاؤه خبر مبتدأ محذوف تقديره المسؤول عنه جزاؤه فهو حكاية قول السائل ويكون ‏{‏مَن وُجِدَ‏}‏ الخ بياناً وشروعاً في الفتوى، وهذا على ما قيل كما يقول من يستفتي في جزاء صيد المحرم‏:‏ جزاء صيد المحرم، ثم يقول‏:‏

‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ فإن قول المفتي‏:‏ جزاء صيد الحرم بتقدير ما استفتيت فيه أو سألت عنه ذلك وما بعده بيان للحكم وشرح للجواب، وليس التقدير ما أذكره جزاء صيد الحرم لأن مقام الجواب والسؤال ناب عنه‏.‏ نعم إذا ابتدأ العالم بإلقاء مسألة فهنالك يناسب هذا التقدير‏.‏

وتعقب ذلك أبو حيان بأنه ليس في الإخبار عن المسؤول عنه بذلك كثير فائدة إذ قد علم أن المسؤول عنه ذلك من قولهم‏:‏ ‏{‏فَمَا جَزَاؤُهُ‏}‏ وكذا يقال في المثل، وأجيب بأنه يمكن أن يقال‏:‏ إن فائدة ذلك إعلام المفتي المستفتي أنه قد أحاط خبره بسؤاله ليأخذ فتواه بالقبول ولا يتوقف في ذلك لظن الغفلة فيها عن تحقيق المسؤول وهي فائدة جليلة‏.‏

وزعم بعضهم أن الجملة من الخبر والمبتدأ المحذوف على معنى الاستفهام الإنكاري كأن المسؤول ينكر أن يكون المسؤول عنه ذلك لظهور جوابه ثم يعود فيجيب وهو كما ترى ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الجزاء الأوفى ‏{‏نَجْزِى الظالمين‏}‏ بالسرقة، والظاهر أن هذا من تتمة كلام الإخوة فهو تأكيد للحكم المذكور غب تأكيد وبيان لقبح السرقة وقد فعلوا ذلك ثقة بكمال براءتهم عنها وهم عما فعل بهم غافلون، وقيل‏:‏ هو من كلام أصحاب يوسف عليه السلام، وقيل‏:‏ كلامه نفسه أي مثل الجزاء الذي ذكرتموه نجزي السارقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏فَبَدَأَ‏}‏ قيل المؤذن ورجح بقرب سبق ذكره، وقيل‏:‏ يوسف عليه السلام فقد روى أن إخوته لما قالوا ما قالوا قال لهم أصحابه‏:‏ لا بد من تفتيش رحالكم فردوهم بعد أن ساروا منزلاً أو بعد أن خرجوا من العبارة إليه عليه السلام فبدأ ‏{‏بِأَوْعِيَتِهِمْ‏}‏ أي بتفتيش أوعية الإخوة العشرة ورجح ذلك بمقاولة يوسف عليه السلام فإنها تقتضي ظاهراً وقوع ما ذكر بعد ردهم إليه ولا يخفى أن الظاهر أن إسناد التفتيش إليه عليه السلام مجازي والمفتش حقيقة أصحابه بأمره بذلك ‏{‏قَبْلُ‏}‏ تفتيش ‏{‏وِعَاء أَخِيهِ‏}‏ بنيامين لنفي التهمة‏.‏

روى أنه لما بلغت النوبة إلى وعائه قال‏:‏ ما أظن هذا أخذ شيئاً فقالوا‏:‏ والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا ففعل ‏{‏ثُمَّ استخرجها‏}‏ أي السقاية أو الصواع لأنه كما علمت مما يؤنث ويذكر عند الحفاظ، وقيل‏:‏ الضمير للسرقة المفهومة من الكلام أي ثم استخرج السرقة ‏{‏مِن وِعَاء أَخِيهِ‏}‏ لم يقل منه على رجع الضمير إلى الوعاء أو من وعائه على رجعه إلى أخيه قصداً إلى زيادة كشف وبيان، والوعاء الظرف الذي يحفظ فيه الشيء وكأن المراد به هنا ما يشمل الرحل وغيره لأنه الأنسب بمقام التفتيش ولذا لم يعبر بالرحال على ما قيل، وعليه يكون عليه السلام قد فتش كل ما يمكن أن يحفظ الصواع فيه مما كان معهم من رحل وغيره‏.‏

وقولهم‏:‏ مقابلة الجمع بالجمع تقتضي انقسام الآحاد على الآحاد كما قال المدقق أبو القاسم السمرقندي لا يقتضي أن يلزم في كل مقابلة مقارنة الواحد للواحد لأن انقسام الآحاد على الآحاد كما يجوز أن يكون على السواء كما في ركب القوم دوابهم يجوز أن يكون على التفاوت كما في باع القوم دوابهم فإنه يفهم معه أن كلاً منهم باع ما له من دابة وقد مر التنبيه على هذا فيما سبق وحينئذٍ يحتمل أن يراد من وعاء أخيه الواحد والمتعدد‏.‏

وقرأ الحسن ‏{‏وِعَاء‏}‏ بضم الواو وجاء كذلك عن نافع‏.‏ وقرأ ابن جبير ‏{‏إعاء‏}‏ بإبدال الواو المكسورة همزة كما قالوا في وشاح إشاح وفي وسادة إسادة وقلب الواو المكسورة في أول الكلمة همزة مطرد في لغة هذيل ‏{‏قَالَ كذلك‏}‏ أي مثل ذلك الكيد العجيب وهو إرشاد الأخوة إلى الإفتاء المذكور بإجرائه على ألسنتهم وحملهم عليه بواسطة المستفتين من حيث لم يحتسبوا ‏{‏كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ أي صنعنا ودبرنا لأجل تحصيل غرضه من المقدمات التي رتبها من دس السقاية وما يتلوه فالكيد مجاز لغوي في ذلك وإلا فحقيقته وهي أن توهم غيرك خلاف ما تخفيه وتريده على ما قالوا محال عليه تعالى، وقيل‏:‏ إن ذلك محمول على التمثيل، وقيل‏:‏ إن في الكيد إسنادين بالفحوى إلى يوسف عليه السلام وبالتصريح إليه سبحانه والأول حقيقي والثاني مجازي، والمعنى فعلنا كيد يوسف وليس بذاك، وفي «درر المرتضى» إن كدنا بمعنى أردنا وأنشد‏:‏

كادت وكدت وتلك خير إرادة *** لو عاد من لهو الصبابة ما مضى

واللام للنفع لا كاللام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 5‏]‏ فإنها للضرر على ما هو الاستعمال الشائع‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الملك‏}‏ أي في سلطانه على ما روي عن ابن عباس أو في حكمه وقضائه كما روي عن قتادة، والكلام استئناف وتعليل لذلك الميد كأنه قيل‏:‏ لماذا فعل ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ لأنه لم يكن ليأخذ أخاه جزاء وجود الصواع عنده في دين الملك في أمر السارق إلا بذلك الكيد لأن جزاء السارق في دينه على ما روي عن الكلبي‏.‏ وغيره أن يضاعف عليه الغرم‏.‏ وفي رواية ويضرب دون أن يؤخذ ويسترق كما هو شريعة يعقوب عليه السلام فلم يكن يتمكن بما صنعه من أخذ أخيه بما نسب إليه من السرقة بحال من الأحوال‏.‏

‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء الله‏}‏ أي إلا حال مشيئته تعالى التي هي عبارة عن ذلك الكيد أو الا حال مشيئته تعالى للأخذ بذلك الوجه، وجوز أن يكون المراد من ذلك الكيد الإرشاد المذكور ومباديه المؤديه إليه جميعاً من إرشاد يوسف عليه السلام وقومه إلى ما صدر عنهم من الأفعال والأقوال حسبما شرح مرتباً، وأمر التعليل كما هو بيد أن المعنى على هذا الاحتمال مثل ذلك الكيد البالغ إلى هذا الحد كدنا ليوسف عليه السلام ولم نكتف ببعض من ذلك لأنه لم يكن يأخذ أخاه في دين الملك به إلا حال مشيئتنا له بإيجاد ما يرجي مجرى الجزاء الصوري من العلة التامة وهو إرشاد إخوته إلى الإفتاء المذكور فالقصر المستفاد من تقديم المجرور مأخوذ بالنسبة إلى البعض، وكذا يقال في تفسير من فسر ‏{‏كِدْنَا لِيُوسُفَ‏}‏ بقوله علمنا إياه وأوحينا به إليه أي مثل ذلك التعليم المستتبع لما شرح علمناه دون بعض من ذلك فقط الخ، والاستثناء على كل حال من أعم الأحوال وجوز أن يكون من أعم العلل والأسباب أي لم يكن ليأخذ أخاه في دين الملك لعلة من العلل وسبب من الأسباب إلا لعلة مشيئته تعالى، وأياً ما كان فهو متصل لأن أخذ السارق إذا كان ممن يرى ذلك ويعتقده ديناً لا سيما عند رضاه وإفتائه به ليس مخالفاً لدين الملك فلذلك لم ينازعه الملك وأصحابه في مخالفة دينهم بل لم يعدوه مخالفة‏.‏

وقيل‏:‏ إن جملة ما كان الخ في موضع البيان والتفسير للكيد وأن معنى الاستثناء إلا أن يشاء الله تعالى أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك وفيه بحث، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً أي لكن أخذه بمشيئة الله سبحانه وإذنه في دين غير دين الملك ‏{‏نَرْفَعُ درجات‏}‏ أي رتباً كثيراً عالية من العلم، وانتصابها على ما نقل عن أبي البقاء على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات، وجوز غير واحد النصب على المصدرية، وأياً ما كان فالمفعول به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن نَّشَاء‏}‏ أي نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة كما رفعنا يوسف عليه السلام، وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك سنة مستمرة غير مختصة بهذه المادة والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ‏}‏ من أولئك المرفوعين ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ لا ينالون شأوه‏.‏

قال المولى المحقق شيخ الإسلام قدس سره في بيان ربط الآية بما قبل‏:‏ إنه إن جعل الكيد عبارة عن إرشاد الإخوة إلى الإفتاء وحملهم عليه أو عبارة عن ذلك مع مباديه المؤديه إليه فالمراد برفع يوسف عليه السلام ما اعتبر فيه بالشرطية أو الشطرية من إرشاده عليه السلام إلى ما يتم من قبله من المبادىء المفضية إلى استبقاء أخيه، والمعنى أرشدنا إخوته إلى الإفتاء لأنه لم يكن متمكناً من غرضه بدونه أو أرشدنا كلاً منهم ومن يوسف وأصحابه إلى ما صدر عنهم ولم نكتف بما تم من قبل يوسف لأنه لم يكن متمكناً من غرضه بمجرد ذلك‏.‏

وحينئذٍ يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ‏}‏ إلى ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ توضيحاً لذلك على معنى أن الرفع المذكور لا يوجب تمام مرامه إذ ليس ذلك بحيث لا يغيب عن علمه شيء بل إنما نرفع كل من نرفع حسب استعداد وفوق كل واحد منهم عليم لا يقادر قدره يرفع كلاً منهم إلى ما يليق به من معارج العلم وقد رفع يوسف إلى ذلك وعلم أن ما حواه دائرة علمه لا يفي بمرامه فأرشد إخوته إلى الإفتاء المذكور فكان ما كان وكأنه عليه السلام لم يكن على يقين من صدوره ذلك منهم وإن كان على طمع منه فإن ذلك إلى الله تعالى شأنه وجوداً وعدماً، والتعرض لوصف العلم لتعيين جهة الفوقية، وفي صيغة المبالغة مع التنكير والالتفات إلى الغيبة من الدلالة على فخامة شأنه عز شأنه وجلالة مقدار علمه المحيط جل جلاله ما لا يخفى‏.‏ وإن جعل عبارة عن التعليم المستتبع للإفتاء فالرفع عبارة عن ذلك التعليم، والإفتاء وإن كان لم يكن داخلاً تحت قدرته عليه السلام لكنه كان داخلاً تحت علمه بواسطة الوحي والتعليم، والمعنى مثل ذلك التعليم البالغ إلى هذا الحد علمناه ولم نقتصر على تعليم ما عدا الإفتاء الذي سيصدر عن إخوته إذ لم يكن متمكناً من غرضه في أخيه إلا بذلك، وحينئذٍ يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ توضيحاً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كِدْنَا‏}‏ وبياناً لأن ذلك من باب الرفع إلى الدرجات العالية من العلم ومدحاً ليوسف عليه السلام برفعه إليها ‏{‏وَفَوْقَ‏}‏ الخ تذييلاً له أي نرفع درجات عالية من نشاء رفعه وفوق كل منهم عليم هو أعلى درجة، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ فوق كل عالم عالم إلى أن ينتهي العلم إلى الله تعالى، والمعنى أن إخوة يوسف كانوا علماء إلا أن يوسف أفضل منهم اه والذي اختاره الزمخشري على ما قيل حديث التذييل إلا أنه أوجز في كلامه حتى خفي مغزاه وعد ذلك من المداحض حيث قال‏:‏ وفوق كل ذي علم عليم فوقه أرفع درجة منه في علمه أو فوق العلماء كلهم عليم هم دونه في العلم وهو الله عز وعلا، وبيان ذلك على ما في «الكشف» أن غرضه أن يبين وجه التذييل بهذه الجملة فأفاد أنه إما على وجه التأكيد لرفع درجة يوسف عليه السلام على إخوته في العلم أي فاقهم علماً لأن فوق كل ذي علم عليم أرفع درجة منه، وفيه مدح له بأن الذين فاقهم علماء أيضاً وإما على تحقيق أن الله تعالى رفعه درجات وهو إليه لا منازع له فيه فقال‏:‏ وفوق العلماء كلهم عليم هم دونه يرفع من يشاء يقربه إليه بالعلم كما رفع يوسف عليه السلام، وذكر أن ما يقال‏:‏ من أن الكل على الثاني مجموعى وعلى الأول بمعنى كل واحد كلام غير محصل لأن الداخل على النكرة لا يكون مجموعياً، وأصل النكتة في الترديد أنه لو نظر إلى العلم ولا تناهيه كان الأول فيرتقي إلى ما لا نهاية لعلمه بل جل عن النهاية من كل الوجوه، ولا بد من تخصيص في لفظ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ والمعنى وفوق كل واحد من العلماء عالم وهكذا إلى أن ينتهي، ولو نظر إلى العالم وإفادته إياه كان الثاني، والمعنى وفوق كل واحد واحد عالم واحد فأولى أن يكون فوق كلهم لأن الثاني معلول الأول، ولظهور المعنى عليه قدر وفوق العلماء كلهم وكلا الوجهين يناسب المقام اه‏.‏

ولعل اعتبار كون الجملة الأولى مدحاً ليوسف عليه السلام وتعظيماً لشأن الكيد وكون الثانية تذييلاً هو الأظهر فتأمل‏.‏ وقد استدل بالآية من ذهب إلى أنه تعالى شأنه عالم بذاته لا بصفة علم زائدة على ذلك، وحاصل استدلالهم أنه لو كان له سبحانه صفة علم زائدة على ذاته كان ذا علم لاتصافه به وكل ذي علم فوق عليم للآية فيلزم أن يكون فوقه وأعلم منه جل وعلا عليم آخر وهو من البطلان بمكان‏.‏ وأجيب بأن المراد بكل ذي علم المخلوقات ذوو العلم لأن الكلام في الخلق ولأن العليم صيغة مبالغة معناه أعلم من كل ذي علم فيتعين أن يكون المراد به الله تعالى فما يقابله يلزم كونه من الخلائق لئلا يدخل فيما يقابله، وكون المراد من العليم ذلك هو إحدى روايتين عن الحبر، فقد أخرج عبد الرزاق‏.‏

وجماعة عن سعيد بن جبير قال‏:‏ كنا عند ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فحدث بحديث فقال رجل عنده‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ فقال ابن عباس‏:‏ بئسما قلت الله العليم وهو فوق كل عالم، وإلى ذلك ذهب الضحاك، فقد أخرج أبو الشيخ عنه أنه قال بعد أن تلا الآية يعني الله تعالى بذلك نفسه، على أنه لو صح ما ذكره المستدل لم يكن الله تعالى عالماً بناءاً على أن الظاهر اتفاقه معنا في صحة قولنا فوق كل العلماء عليم، وذلك أنه يلزم على تسليم دليله إذا كان الله تعالى عالماً أن يكون فوقه من هو أعلم منه، فإن أجاب بالتخصيص في المثال فالآية مثله‏.‏

وقرأ غير واحد من السبعة ‏{‏درجات مَّن نَّشَاء‏}‏ بالإضافة، قيل‏:‏ والقراءة الأولى أنسب بالتذييل حيث نسب فيها الرفع إلى من نسب إليه الفوقية لا إلى درجته والأمر في ذلك هين‏.‏ وقرأ يعقوب بالياء في ‏{‏يَرْفَعُ‏}‏ و‏{‏يَشَاء‏}‏‏.‏ وقرأ عيسى البصرة ‏{‏نَرْفَعُ‏}‏ بالنون و‏{‏درجات‏}‏ منوناً و‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ بالياء، قال صاحب اللوامح‏:‏ وهذه قراءة مرغوب عنها ولا يمكن إنكارها‏.‏ وقرأ عبد الله الحبر ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ ذِى عالم عَلِيمٌ‏}‏ فخرجت كما في «البحر» على زيادة ذي أو على أن ‏{‏عالم‏}‏ مصدر بمعنى علم كالباطل أو على أن التقدير كل ذي شخص عالم، والذي في «الدر المنثور» أنه رضي الله تعالى عنه قرأ ‏{‏وَفَوْقَ كُلّ عالم عَلِيمٌ‏}‏ بدون ‏{‏ذِى‏}‏ ولعله إلا ثبت والله تعالى العليم‏.‏